; إنها حروب دينية | مجلة المجتمع

العنوان إنها حروب دينية

الكاتب أحمد لطفي عبد اللطيف

تاريخ النشر الثلاثاء 02-نوفمبر-1976

مشاهدات 10

نشر في العدد 323

نشر في الصفحة 43

الثلاثاء 02-نوفمبر-1976

نريد في هذا المقال أن نعرض لقضيتين هما في الواقع قضية واحدة، هل للدين صلة فيما يقوم بين الدول من خلافات وفيما يقوم بين الشعوب من حروب؟، وهل نواجه– نحن المسلمين– في هذا العصر حربًا دينية أم حربًا استعمارية مجردة عن الدين؟

إن استعراض تاريخ الحروب في القديم والحديث يقودنا إلى تقرير حقيقة ثابتة بأن الخلافات الفكرية بين الجماعات– صغرت أو كبرت– هي المصدر الرئيسي لكل الحروب التي تنشب والمعارك التي تدور، وحسبنا أمثلة قليلة من العصر الحديث وهو العصر الذي يوصف ببعده عن الدين ومؤثراته، حتى نتبين أن الدين هو العامل الأهم إن لم يكن الأوحد فيما ينشب من حروب طاحنة وخلافات حادة.

في الجزائر الإنجليزية هناك حرب أهلية تستمر منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا بين الكاثوليك من أبناء إيرلندا يدعمهم الكاثوليك في أنحاء العالم،  وبين البروتستانت في الجزيرة يدعمهم جيش بريطانيا ممثلا للبروتستانت في العالم أجمع.

إذا لم يكن الاختلاف في المذهب الديني هو الأساس في هذا الحرب فلماذا يقاتل أبناء إيرلندا بعضهم بعضًا؟، في الولايات المتحدة الأمريكية لا يستطيع فرد كاثوليكي أن يفوز برئاسة الجمهورية رغم أن دستورها المعلن بنص صراحة على الحرية الدينية والمساواة بين الأديان، والكاثوليكي مسيحي ولكنه في اعتبار عامة الشعب الأمريكي البروتستنتي ليس مسيحيًا مخلصًا يمكن الوثوق به.

 

وعندما فاز الرئيس كندي– وهو كاثوليكي– أثار دهشة واستنكارًا بين البروتستانت في العالم، وكان من أسباب مصرعه هذا الخلاف الديني الذي حاولت التقارير تجنب البحث فيه.

والحروب الطاحنة التي لم تتوقف طوال قرون بين إنجلترا راعية البروتستانت وفرنسا راعية الكاثوليك، كانت قائمة على أساس الخلاف الديني، ولا زال الخلاف بين الدولتين يقوم على أساس من اختلاف المذهب الديني بينهما، وقد كتب أحد المحللين السياسيين أن من بين أهم الأسباب في وقوف فرنسا في وجه إنجلترا في قضية دخولها السوق الأوربية المشتركة هو الخلاف المذهبي بينهما.

وفي روسيا– الدولة الشيوعية التي اتخذت من الكفر بالله دينًا مكان الأديان جميعًا، هل ابتعد تأثير الكنيسة عن مجريات الأمور فيها؟ 

إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا كان جميع الرؤساء والمسئولين في الاتحاد السوفياتي من أصل مسيحي، ولم يستطع أحد من المسلمين أو ممن هو من أصول إسلامية وهم يعدون أكثر من ربع السكان أن يكون في عداد المتنفذين في الدولة.

هذه أسئلة ومثلها كثير لا يمكن أن نجيب عليها إلا إذا قررنا أن الدين عامل أساسي في جميع ما يحدث بين الدول من خلاف وما ينشب بينها من حروب.

وإذا نظرنا إلى العالم اليوم بعين فاحصة لوجدنا أن الصراع القائم في بلاد المسلمين إنما هو في الحقيقة صراع ديني بين المسيحية واليهودية والوثنية من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى.

وقبل أن نخوض في تفاصيل هذه القضية نود أن نقرر أن صمود الإسلام أمام هذه الهجمات الكاسحة إنما هو دليل على صلابة هذا الدين وقوته الذاتية، وإلا فإن طول هذا الصراع وضراوته مع ضعف المسلمين وهوانهم، كان كفيلاً بالقضاء على هذا الدين.

ومهما يحلو للبعض أن يذكر من أسباب للحروب التي شنتها الدول المسيحية في العصور الوسطى على بلادنا الإسلامية فإن الاسم المعلن لها– وهو الحروب الصليبية– يكشف عن حقيقة الدوافع التي كانت تحدو هذه الجيوش في غزوها لبلاد الإسلام، ولقد كان من وراء المدد الهائل والمستمر لهذه الجيوش، الخطب الحماسية والوعود المجزية للباباوات والرهبان، ولا يستطيع أحد أن يرد هذه الحقائق لأنها مقررة ثابتة ومعترف بها بل وموضع افتخار لدى المصادر المسيحية نفسها. 

وكان التبشير المسيحي في العصر الحديث– وما يزال– مقدمة كبرى للاستعمار المسيحي للبلاد الإسلامية، فقد عمل المبشرون وخططوا ومهدوا للجيوش المسيحية التي غزت البلاد الإسلامية فيما بعد، وقد مارس الاستعمار المسيحي حربًا دينية منظمة ضد الإسلام كدين، وضد المسلمين كشعوب تدين بهذا الدين العظيم.

أما ممارسة الاستعمار المسيحي حربه ضد الإسلام كدين، فإنه يظهر في تشويه حقائق الدين الإسلامي في الكتب والصحف والإذاعات، ويظهر أيضًا في مظهر آخر في الحرب التي أعلنوها على لغة القرآن، محاولين أن يقضوا عليها بتشجيع الهجمات المحلية واللغات القديمة البالية للشعوب الإسلامية، ويبدو واضحًا في الخط الذي انتهجه المستعمرون في إدخال الطريقة الغربية في التعليم وهي طريقة مادية سيئة، وزادها سوءًا إصرار المستعمرين على إضعاف ثم إبعاد تأثير الدين، مما أضعفه في نفوس المسلمين الذين تلقوا تعليمهم بهذه الطريقة أو تلقوا تعليمهم في المدارس النصرانية البحتة، ولعلنا نزيد بهذه الصورة توضيحًا إذا علمنا بأن الجامعة الأمريكية في بيروت كانت– ولا تزال– تصر على أن يحضر الطلاب المسلمون درس الأحد في الكنيسة التابعة للجامعة.

كما كان للمستعمرين الأثر السيئ في نشر الرذيلة بكل أنواعها وبكل الوسائل بين المسلمين، فأشاعوا الزنا بل وفتحوا بيوتًا مرخصة ترعاه وتنظمه وتحافظ عليه، ونشروا الرشوة والمحسوبية حتى عاد المسلم لا يستطيع أن يقضي حاجة من حاجاته مهما كانت بسيطة إلا عن هذا الطريق، وأشاعوا التحاسد والتباغض بين الناس وشجعوه وأعانوا عليه بكل الوسائل حتى غدا تأثير العادات والتقاليد لدى بعض الناس أقوى من تأثير الدين وهديه، وجعلوا من الربا القاعدة الأساسية في التعامل التجاري حتى كاد المسلم لا يسلم من ملابسته في معاملاته وتجارته ووظيفته.

كل هذا وغيره من أساليب العدوانية أعلنها الاستعمار النصراني على الإسلام ليضعفه أو يبعده من الحياة العامة والخاصة للمسلمين.

أما الحرب الذي أعلنها الاستعمار ضد الشعوب الإسلامية، فإن من أسوئها كما قدمنا محاولة الفصل بينهم وبين دينهم– سر سعادتهم– حتى أصبحوا أمة تائهة لا تعرف لها دستورًا ولا تستقر لها حياة، ثم من بعد ذلك عملوا على تجزئة العالم الإسلامي إلى دويلات ضعيفة هزيلة، ومكنوا للأقليات أن تنشئ لها دولاً وتكون هي المسيطرة فيها المهيمنة عليها، ومكنوا في كثير من الدول للأقليات النصرانية أن تحكم الأكثرية المسلمة كما في الحبشة وتشاد مثلاً، وأيدوا بكل ما أوتوا من قوة الوثنية بالهند على مسلمي باكستان، فشطروا باكستان شطرين ضعيفين بعدما كانت دولة قوية مرجوة للإسلام والمسلمين، ومكنوا لليهود في فلسطين فشردوا أهلها واغتصبوا خيراتها ودنسوا مقدسات المسلمين فيها، ولا زالوا مصدر شر ليس لأبناء فلسطين فقط بل ولأبناء المسلمين جميعًا، وها هم الآن بعدما نجحوا في تمكين اليهود في فلسطين يعملون على تمكين اليهود من فلسطين يعملون على تمكين المارون النصارى في لبنان ليستقلوا بها دون المسلمين ويعلنوها دولة مسيحية إلى جانب الدولة اليهودية كشوكة أخرى في قلوب المسلمين، وإذا لم يتنبه المسلمون لهذا السرطان الذي يسري في جسم العالم الإسلامي فيقاوموه بالعودة الصادقة إلى الله، سيستشري، وسنرى فيما بعد– لا قدر الله– دولة نصيرية وأخرى درزية وثالثة قبطية، ويعلم الله ما المدى الذي سيبلغه هذا الداء الوبيل. 

وإن من أخطر ما نجح فيه المسيحيون في حربهم ضد المسلمين أنهم استطاعوا أن يقنعوا فئات كثيرة من المسلمين بأن إسرائيل دولة لا تقوم على أساس من الدين، بل هي دولة عنصرية قومية وأن النصارى ممن يسكنون البلاد العربية أولى بالمحبة والود من المسلمين في الدول الإسلامية غير العربية كالباكستان وإندونيسيا، مثلاً هذه المقولة وجدت أتباعًا وأنصارًا ممن ضاقوا بالجهاد والتضحيات، وظنوا أنهم بمسايرة هذه الدعاوى يستريحون ويريحون ضمائرهم، فكان أن تردت الأمة العربية المسلمة في هذه المصيدة وذاقت نتيجتها هزائم وانقسامات لا زالت تعاني منها إلى يومنا هذا.

ولعل فساد هذه الدعاوى ظاهر لا يحتاج إلى دليل، ولكن التذكير ببعض ما ينقصها أمر لا بد من إيراده في كلمتنا هذه، فإسرائيل دولة قامت على الدين، وما كان لها أن تقوم بغيره، إذ لا مقوم لاجتماع هذه القوميات المتناثرة المتنافرة إلا بالدين وكل ما في إسرائيل وما يكتنفها يشع بالتعصب الديني، فكلمة إسرائيل تطلق في الأساس على نبي من أنبياء اليهود– وهو يعقوب عليه السلام والكنيست مجلس الشعب اليهودي إنما أخذ اسمه من مكان العبادة عند اليهود، وتصرفات اليهود في كل مناسبة تؤكد هذه النزعة الدينية، وأن هتافاتهم المعادية للإسلام تدل على هذا الاتجاه، وإلا فماذا كانت تعني هتافاتهم عندما دخلوا القدس بالثارات خيبر؟، وماذا يعني تمزيقهم للقرآن الكريم في الحرم الإبراهيمي الشريف.

أما النصارى فإنهم وقفوا أبدًا ضد المسلمين ومع اليهود، وقد أغضى أنصار القومية العربية عن الكثير من إهانات النصارى وتصرفاتهم المعادية، ولعل قائلاً يقول إن النصارى في لبنان مثلاً قد غيروا من موقفهم نحو إسرائيل حديثًا، نتيجة الحرب بينهم وبين الفدائيين، ولكننا ننقض هذا الزعم بأن نضع بين يدي القارئ المسلم وثيقة قدمها إلى لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة مطران بيروت الماروني سنة 1947م، تبين العداء النصراني لأمتنا، وتبين أيضًا عمق هذا العداء، وتبين في الوقت نفسه أن النصارى يقفون دائمًا إلى جانب اليهود في احتلالهم لبلادنا، لا فرق في ذلك بين نصراني يسكن البلاد العربية أو غيرها، نصراني متمسك بنصرانيته معلنًا ذلك أم نصراني متسترًا بهذا التعصب معلنًا غيره ليخدع المسلمين أو المغفلين منهم؟

ولعلنا حين نختم كلمتنا بهذه الوثيقة نكون قد قدمنا دليلًا مقنعًا لدعاة القومية المضللين، بأن الحقد النصراني قديم، وأن موقفهم من ديننا لن يتغير، وموقفهم من المسلمون باق ومستمر ما لم يغير المسلمون دينهم، ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (سورة البقرة الآية ١٢٠) «1»

تقول الوثيقة: «2»

بيروت في 5 أغسطس آب 1947 

سيدي الرئيس

لقد استطاع لبنان دائمًا أن ينتقد نفسه من سيطرة الشعوب المجاورة ونجح في المحافظة على تقاليده حتى لا تُمس بفضل وضعه الجغرافي وتاريخه وثقافته وتقاليده وخصوصية سكانه وتعلقهم بإيمانهم ومثلهم الأعلى.

وعلى نقيض ذلك فقد كانت فلسطين، وهي المركز العقائدي للتبشير بالعهدين القديم والجديد.. كانت دائمًا عرضة للتعذيب والتنكيد، ومنذ عهد بعيد فقد دمر وسرق وشوه كل ما يمكن أن يذكرنا بشذرات من تاريخ فلسطين، فلقد تحولت المعابد والكنائس إلى جوامع وانعدم دور هذه البقعة الشرقية من المتوسط عن عمد، وليس هناك من شك في أن فلسطين كانت تاريخيًا وطن اليهود والمسيحيين الأوائل، ولم يكن أي من هؤلاء من أصل عربي.

إن قوة الغزو الفظ هي التي أخضعتهم واضطرتهم إلى التحول إلى ديانة الإسلام، وهذا هو أصل العرب في ذلك البلد فلسطين، فهل يمكن أن نستنتج من ذلك أن فلسطين عربية أو أنها كانت دائمًا عربية؟

إن الآثار التاريخية والنصب وأوابد الدينين اليهودي والمسيحي ما زالت حية تشهد على أن هذا البلد فلسطين بقي في منأى عن الحروب الأهلية التي كانت تنشب بين أمراء وملوك العراق والجزيرة. 

إن الأماكن المقدسة والمعابد وحائط المبكى والكنائس وقبور الأنبياء والقديسين، وبتعبير مختصر، إن كل أوابد الدينين– اليهودي والمسيحي– هي رموز حية تُبطل وحدها مزاعم الذين يعنيهم حاليًا أن يجعلوا من فلسطين بلدًا عربيًا.

إن ضم فلسطين ولبنان إلى مجموعة البلدان العربية يعني التنكر للتاريخ، وتدمير التوازن الاجتماعي في شرق المتوسط.

إن هذين البلدين– فلسطين ولبنان– وهاتين البؤرتين تدلان على ضرورة وجودهما مستقلين منفردين وعلى فائدة هذا الاستقلال والتفرد.

ماذا كان دور اليهود في فلسطين؟ 

من هذه الزاوية تبدو فلسطين في عام 1918 بلدًا قاحلاً فقيرًا خاليًا من كل الثروات، بل كانت أكثر الولايات التركية تخلفًا، وكانت المستعمرة الإسلامية العربية فيها في فلسطين تشارف على الهلاك، ثم بدأت الهجرة اليهودية وتأسست المستعمرات، وتغير وجه البلد في أقل من عشرين عامًا.

أصبحت الزراعة مزدهرة، وتأسست المصانع الكبرى، وأثرى البلد، إن وجود شعب متطور إلى هذه الدرجة ويتمتع بالنشاط والحيوية إلى جوار لبنان لا يمكن إلا أن يساهم في رخاء الجميع. 

إن اليهودي خلاق واللبناني ميال جدًا إلى التكيف... وبالتالي فإن هذا الجوار لا يمكن إلا أن يخدم تطور الأوضاع المعاشية للسكان، أما من الوجهة الثقافية فإن هذين الشعبين، اللبناني واليهودي، يستطيعان أن يفتخرا بأن في صفوفهما من المثقفين والمفكرين أكثر من كل ما في صفوف شعوب المنطقة كلها، وليس من العدل أن نحكم أكثرية جاهلة، ليس من العدل أن يكون مليون من البشر المتطورين والمثقفين لعبة في يد بعض ذوي المصالح الذين يحكمون الملايين من المتخلفين، ثمة نظام في العالم، وهذا النظام هو الذي يخلق التوازن، وإذا كانت الأمم المتحدة راغبة في المحافظة على هذا النظام فإن عليها أن تفعل ما بوسعها لكي تقره.

إن هناك أسبابًا مهمة اجتماعية وإنسانية ودينية تطلب بأن يؤسس في هذين البلدين وطنان للأقليات، وطن مسيحي في لبنان، ووطن يهودي في فلسطين.

إن هذين الوطنين المرتبطين جغرافيًا سيتساعدان اقتصاديًا ويشكلان جسرًا ضروريًا بين الشرق والغرب سواء من الناحية الثقافية أو من الناحية الحضارية.

كذلك فإن تجاور هذين الشعبين– اليهودي والمسيحي– سيساهم في الحفاظ على السلام في هذا الشرق الأوسط الذي تمزقه الخصومات، وسيحد من اضطهاد الأقليات التي طالما لجأت إلى هذا البلد أو ذاك لبنان وفلسطين.

إن لبنان يطالب بحرية اليهود في فلسطين، ويتمنى كذلك أن تعطى له للبنان حريته واستقلاله مع التقدير الكبير.

أنياس مبارك، مطران بيروت الماروني

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الزلازل.. والأسئلـة الوجوديـة

نشر في العدد 2177

26

الأربعاء 01-مارس-2023

مجتمعنا- العدد 14

نشر في العدد 14

25

الثلاثاء 16-يونيو-1970