عام دراسي جديد..

آباء أجسام وآباء أفكار!

د. محمد أحمد عزب

14 سبتمبر 2025

169

يدخل علينا العام الدراسي الجديد، فتختلط فيه مشاعر التلاميذ والطلاب، وهي مشاعر متفاوتة، بين ابتهاج وفرح، وقلق ووجل، فبعض الطلاب متشوفون لتغيير نمط الحياة، متشوقون لملاقاة زملاء المقاعد والفصول الدراسية، وآخرون في وجلٍ من أمرهم، فالحياة الرحيبة، والوقت المفتوح للهو والسهر والتنزه سيصير محكوماً، بالصحو مبكراً، والأكل بمواعيد والنوم كذلك.

أما الآباء والأمهات، فالدراسة صارت عبئاً يضاف لأعباء البيت، من متابعة ذوييهم، ومراقبتهم، حتى يصل الأمر للشجار والانفعال داخل البيت، إما من التكاسل والتباطؤ، وإما من إهمال أبنائهم في دروسهم، وعدم الانتباه لتعليمات المدارس والمعلمين.

آباء في موقف المسؤولية

إن البيت هو المسؤول الأول عن نجاح العملية التعليمية، وإن غراس النجاح وحب العلم، وتحول البيت إلى حاضنة سلوكية ومعرفية وعاطفية هو الحلقة الآكد في مسيرة التعليم، وإن من الخطأ أن ينظر نظرة رأسمالية لعملية التعليم، ويكون السؤال هو: ماذا أصنع بشهادة التعليم؟

والسبب في ذلك أن شهادة التعليم على اختلاف درجاتها صارت مسوغاً من مسوغات شغل الوظائف، وعلى حسب حاجة سوق العمل، والموقف المالي للمؤسسة المستقبلة لحملة الشهادات، تكون الرواتب الممنوحة.

إن المسؤولية التي تقع على كاهل الآباء مسؤولية شديدة الخطر والأهمية في تنشئة الأبناء، وقد يقود الخلل في ممارسة هذه المسؤولية إلى نتائج شديدة السلبية عليهم، فالآباء يحبون أبناءهم ويحبون الخير لهم، لكنهم لا يسعون قط في معرفة الطرق التي يعززون فيها سبل الخير لأبنائهم، ودائماً نظرتهم للحياة، وطريقتهم السالفة في التربية يجعلونها هي الأساس الذي يجب على الأبناء أن يتمثلوه، غاضِّين الطرف عن تطورات الزمن، وتفاعلات الحياة المختلفة، وأن ما كان بالأمس مستطاعاً صار اليوم في حكم المحال.

فطريقة الآباء في التعاطي مع الأبناء حيال التعليم لا يشفع لها أنهم لا يتهمون في حب الخير لهم، بل لا بد أن تكون في التعرف على مدارات الرعاية وفق متغيرات الزمن، وتهيئة الأبناء لليقين بأن العلم في حد ذاته غاية عظمى، فتعلم العلم غاية شريفة لمن يحمله.

المثل العليا ودور الآباء

يعد غراس المثل العليا للأولاد ليقتدي بها هي السلم الذي ينبغي أن يرتقي به، وهي الضوء الذي يسير فيه حتى يصل إلى غايته، وما دام عنق المتعلم مشدوداً إلى مُثل عليا، مهموماً بالوصول إليها، فيظل ابتهاجه بالدراسة لا ينقطع، بل سيراها طريقه للوصول، فـ«يحتاج كل جيل أن يتبين نموذج المثل الأعلى الذي يبني مستقبله طبقاً له في ضوء الأصول التي يتضمنها القرآن والسُّنة، وفي ضوء حاجات العصر والتحديات القائمة، والمثل الأعلى نتاج فقه بشري، وإن كانت أصوله إلهية؛ لأنه يعدُّ فهم القائمين على التربية لنموذج الحياة التي يراد بناؤها للجيل الناشئ، وهذا الفهم قد يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحا جزئياً، وقد يكون خاطئاً تماماً»(1).

وقد يكون هذا كلاماً صعباً على بعض أولياء الأمور، ولكن السهل الميسور أن يتخذ لولده نموذجاً من نماذج العلم التي خرجت من فصول الدراسة، وكانت تستقبل العام وتستدبره حتى وصلت لما أرادت.

إن الآباء يمثلون البيئة الأولى للتربية، ويُنظر إليهم كحاضنة عاطفية وسلوكية لأبنائهم، فمن المهم أن يغرس الآباء فيهم خصال الخير، فهي التي تصون السلوك وتحوطه، وكثير من الآباء يخشون على أبنائهم من التفلت الدراسي، أو أصدقاء السوء، ولو عوَّده عادة خير، لكان حصناً له مع مدارات التربية الأخرى من الانحراف.

آباء أفكار وعقول في العام الجديد

إن المعلمين يمثلون البيئة النظامية الرسمية التي تقدم المعرفة والمهارات العلمية والتربوية، والمعلمون هم الآباء بعد الآباء، وما زال كبار العلماء يضعون في مستهل تراجمهم أسماء مَن تعلموا على أيديهم ونهلوا من علومهم، وكم من تلميذ نجيب كان سبباً في علو شأن أستاذه بعد أن رد له الجميل بعد حين، إن المعلم هو الأساس في عملية غراس الخير في طلابه، والتعليم بالتربية والسلوك أنجح وأنجع من تعليم السطور والمسطور.

ولله در أم مالك بن أنس حين أدركت -وهي المرأة البسيطة- ذاك البعد الخطير في دور المعلم، فقالت لمالك: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه(2)! وإذا أردنا سبر أغوار تلك الكلمة العظيمة -كلمة الأدب- فعلينا أن نراجع دلالتها في لغة العرب، فالأدب رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق، يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل(3)، والأدب هو: اجتماع خصال الخير في العبد(4).

وإذا أردنا معرفة أفراد الأدب راجعنا الكتب التي وضعت لتذكر مدارات الأدب، كـ«كتاب الأدب» لابن أبي شيبة، و«الأدب المفرد» للبخاري، ووضع أبو داود كتاباً للأدب وضع تحته أكثر من 110 أبواب بدأه بـ«باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم»، فهي مشتملة على ما يشبه برنامج عام للسلوك الفاضل.

أما دور المعلم في غراس الأدب فكما قيل: إن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها، وتظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليبس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب، لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها(5).

فالذين يحركون المدارك، ويستنهضون الهمم، ويستخرجون مكنون العقول هم المعلمون، حيث هم الأقدر على الغراس الفاضلة وتعاهدها حتى الإثمار.

ابتغاء وجه الله

إن إدراك الآباء بالأصالة والآباء بالتبعة -نعني المعلمين- لقيمة ابتغاء وجه الله لأعظم ما يعين على تحمل مشاق طريق التعليم، فإن نجاح الجميع غير ممكن، والذي يصبر الإنسان على أي تعثر هو أنه ابتغى وجه الله تعالى، وقام بما عليه على الوجه الأتمّ، وهذا هو مناط حصول الأجر، والسلوى حين العجز.

وأخيراً، أيها الأبناء، اعلموا أن ما تبذلونه اليوم من جدٍّ واجتهاد؛ هو ما تبنون به مستقبلكم غداً، فالصبر الصبر على مشقة الطلب، ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟!

قال: فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليَّ من التراب فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: «هذا الفتى كان أعقل مني(6).

والأمر ذاته وقع لسيبويه مع رفيق الطلب علي بن نصر الجهضمي، حيث طلب منه جمع علم الخليل، فتأخر الجهضمي، وتقدم سيبويه(7)، فكان أن ترك للعربية كتابه الفذ المعروف الذي لا يشبهه كتاب فيها في فنه.

إن الغد القادم سيحمل قادته وعلماءه ورواده، فمن العقلاء من يعمل ليكون واحداً من هؤلاء، ومنهم من يستبعد الأمر على نفسه ويركن للدعة، فيفوته حظه من الريادة، ويندم بعد ضياع العمر.




__________________

(1) أهداف التربية الإسلامية، ص 101.

(2) ترتيب المدارك (1/ 130).

(3) التعاريف، ص 44.

(4) مدارج السالكين (2/ 355).

(5) الأدب الصغير، ص 21.

(6) المستدرك (1/ 188).

(7) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 14.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة