القول الثمين في نصح الدائن والمدين (2)
آداب وعِبَر من قضاء دَيْن الزبير
الزبير بن
العوام: أبو عبدالله، حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنُ عمته صفية بنت
عبدالمطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سلَّ
سيفه في سبيل الله، أسلم وهو حدث له ست عشرة سنة، حدث عنه بنوه عبدالله، ومصعب،
وعروة، وآخرون (1).
وكان مما حدَّث
به ابنُه عبدُالله أنه لما وقف الزبير يوم الجمل -ذلك اليوم الذي اضطربت فيه
القلوب، وتكسّرت فيه الرماح، وعلا غبار الفتنة على نور الفطنة- نادى عليه فقال: «يا
بني، إنَّه لا يُقْتَلُ اليومَ إلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وإنِّي لا أُرَانِي
إلَّا سَأُقْتَلُ اليومَ مَظْلُومًا، وإنَّ مِن أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي» (2).
يعلمنا الزبير
رضي الله عنه أن لقضاء الدَّيْن آدابًا جمة، وأحكامًا مهمة يجب أن تكون في الحسبان.
أولًا: الدَّيْن هَمٌّ وغَمٌّ:
مما ينبغي للمدين
معرفته أن الدَّيْن هَمٌّ وكدر، وغَمٌّ وقلق، يكدر صفو الليالي وحلاوة الأيام، لا
سيما إذا تراكمت الديون وكثر الغرماء والمطالبون؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم يستعيذ بربه من غلبة الدَّيْن وضلعه، فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم
والحزن والعجز والكسل، والجبن والبخل، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وغلبة الرجال» (رواه
البخاري).
ثانيًا: الدَّيْن أمانة:
وهذا مستفاد من
قول الزبير: «يا بُنَيِّ بعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِي»، فهو يوقن أن الدَّيْن أمانة
في عنقه لا ينبغي التهاون فيه، بل يجب المبادرة إلى قضاء هذا الدين وأداء هذه
الأمانة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا» (النساء: 58)، ولعل الذي جعل الزبير مهمومًا بقضاء دينه وهو في
ساحة النزال، علمه بخطورة الدَّيْن حتى على من نال الشهادة، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن» (رواه مسلم).
فإذا كان ذلك في
حق من كرمه الله بالشهادة في سبيله، فكيف بمن هو دونه في المنزلة؟!
ثالثًا: ضرورة الوصية بالدَّيْن:
قال عبدالله: «فَجَعَلَ-أي
الزبير- يُوصِينِي بدَيْنِهِ»، وهذا معناه أنه يلزم المدين أن يخبر أهله وورثته
بما عليه من حقوق للناس، مقدارها وأصحابها وموعد استحقاقها إذا لم يكن الدَّيْن معروفًا
لديهم أو موثقًا في كتاب، وقد يتحتم ذلك إذا كان على وشك سفر بعيد، أو أصابه مرض
عنيد لا يرجى برؤه ونحو ذلك.
فالمدين إذا مات
وكان قادرًا على أداء دَيْنه، ولم يؤده تناسياً أو جحوداً للحق، أو لعلمه بيسر
الدائن، ولم يقم أحد بالوفاء من بعده، فإن هذا الدين سيُقضى يوم القيامة لا محالة،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه دَيْن فليس ثَمَّ دينار ولا درهم،
ولكنها الحسنات والسيئات» (رواه الحاكم).
وعند البخاري من
حديث جابر بن الله قال: «لما حضر أُحدٌ دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا
مقتولًا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز
عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن عليَّ دَيْنًا فاقضِ واستوصِ
بإخوتك خيرًا».
رابعًا: عدم الاستدانة إلا للضرورة القصوى:
فالسلامة كل
السلامة أن يبتعد المرء عن أموال الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يترفع عما
في أيديهم كثيرًا كان أو قليلًا.
قالَ عبدالله: «وإنَّما
كانَ دَيْنُهُ الذي عليه أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَأْتِيهِ بالمَالِ،
فَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ، فيَقولُ الزُّبَيْرُ: لا، ولَكِنَّهُ سَلَفٌ؛ فإنِّي
أَخْشَى عليه الضَّيْعَةَ».
فالزبير رضي
الله عنه ما طمع في مال أحد، ولا ذهب ليستدين من أحد، وإنما كان الناس هم من يضعون
أموالهم أمانة عنده لعلمهم بعفته وترفعه، فكان يشترط عليهم أنها عنده على سبيل
السلف، ثم يأخذها ويتاجر فيها حتى لا تضيع قيمتها، وإلا فالزبير رضيع لَبان العفة،
وربيب بيت النبوة في الاستغناء عن الناس.
روى ابن ماجة في
السنن عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم
رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا أنا عملتُه، أحبَّني الله وأحبني
الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازهَدْ في الدنيا يحبَّك الله،
وازهَدْ فيما في أيدي الناس يحبك الناس»، وقال: «ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن
يستغْنِ يُغْنِهِ الله» (متفق عليه).
وهذا على خلاف
ما يقع فيه البعض من التساهل في استلاف المال من الناس لأجل صرفه في الكماليات
التي لا داعي لها، ولا ضرورة إليها.
خامسًا: الاستعانة بالله على الوفاء:
ثم قال الزبير: «يا
بُنَيِّ، إنْ عَجَزْتَ عنْه في شَيءٍ، فَاسْتَعِنْ عليه مَوْلَايَ، قالَ:
فَوَاللَّهِ ما دَرَيْتُ ما أَرَادَ حتَّى قُلتُ: يا أَبَةِ مَن مَوْلَاكَ؟ قالَ:
اللَّهُ».
أجل، لقد ترك
الزبير لأصحاب الحقوق أموالًا طائلة كي لا يقع في العقوق، ثم أرشد وصيه إن هي قصرت
عن سداد الغرماء، أن يلهج بالدعاء إلى مولاه ربِّ السماء، فهو الذي سيتولى عنه
القضاء.
يقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُدَانُ، وَفِي نَفْسِهِ أَدَاؤُهُ إِلَّا كَانَ
مَعَهُ مِنَ اللهِ عَوْنٌ» (رواه أحمد).
فالله يعلم أن
الزبير ما أخذ أموال الناس لغرض الإتلاف، ولا لمحض الدين والاستلاف، وإنما أراد
نفعهم والخير لهم، وقد أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن «مَن أخَذَ أمْوالَ
النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها
أتْلَفَهُ اللَّهُ» (رواه البخاري).
سادسًا: كثرة التضرع والدعاء:
فالدعاء الخالص
والتضرع الصادق من أعظم أسباب تيسير القضاء، يقول ابن الزبير: «فَوَاللَّهِ ما
وقَعْتُ في كُرْبَةٍ مِن دَيْنِهِ، إلَّا قُلتُ: يا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ
عنْه دَيْنَهُ، فَيَقْضِيه»؛ نعم، يقضي الله عنه، لصدقه في الوفاء بدينه.
وعن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «ألا أُعلمك دعاء تدعو
به لو كان عليك مثل جبل أُحد دينًا، لأداه الله عنك؟ قل يا معاذ: اللهم مالك الملك
تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير
إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما
من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة مَن سواك» (رواه الطبراني بسند حسن).
سابعًا: المبادرة إلى القضاء:
قَامَ ابن
الزبير دون إرجاء أو مماطلة فنادى في الناس قاطبة: «مَن كانَ له علَى الزُّبَيْرِ
حَقٌّ، فَلْيُوَافِينَا بالغَابَةِ».
وهذا أدب واجب
على الورثة، أن يبحثوا عن أصحاب الديون، وأن يعجلوا بقضاء دَيْن ميتهم، وألا
ينتهزوا فرصة محبة الدائن لميتهم أو عدم احتياجه إلى المال، لكونه غنيًا ميسور
الحال؛ «فنفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يقضى عنه» (رواه الترمذي).
ثامنًا: لا ميراث إلا بعد تيقن الوفاء:
لأن الله تعالى
عندما قسم المواريث بدأ بقضاء دَيْن الميت قبل تقسيم تركته، وذلك في أكثر من موضع
من آيات الميراث في سورة «النساء»، كما في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء:
11)، وقوله تعالى: (مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء: 12)، فقضاء الدَّيْن
مقدم شرعًا على تقسيم التركة.
ولذا «لَمَّا
فَرَغَ ابنُ الزُّبَيْرِ مِن قَضَاءِ دَيْنِهِ، قالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ
بيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قالَ: لَا، واللَّهِ لا أَقْسِمُ بيْنَكُمْ حتَّى أُنَادِيَ
بالمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَن كانَ له علَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ،
فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ، قالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بالمَوْسِمِ،
فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بيْنَهُمْ».
وهذا درس عظيم
في الوفاء للوالدين، ندر وجوده في أهل زمان تعلقت قلوبهم بالماديات وإيثار الشهوات؛
إذ يتنكرون لأصحاب الحقوق، ويقابلون البر بالمطل والعقوق، أما ابن الزبير فقد كان
وفاؤه منهجًا يُدرس، وهديًا يُتبع، إذ تَتبَّع الغرماء تتبُّع الظمآن لمورد الماء،
لا لأجل صيت يُسمع ولا ثناءٍ يُرفع، وإنما خوفًا أن يُحبس والده عن الجنان، أو
تغلق دونه منازلُ الرضوان؛ فإن من أعظم الذُّنوبِ عند اللهِ -بعد الكبائر– أن
يموتَ العبد وعليه دَينٌ لا يدع له قضاء.
اقرأ أيضاً:
- القول الثمين في نصح الدائن والمدين (1)
___________________
الهوامش
(1) سير أعلام
النبلاء، ج1، ص41.
(2) الحديث
بطوله رواه البخاري، ج6، كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله، وقد اقتصرنا
هنا على مواضع الاستشهاد خشية الإطالة.