أهمية الكلمة ودورها في نقل الحقيقة من منظور الشرع

في زمن الانفتاح
الإعلامي وتدفق الأخبار، تحتل الكلمة موقعاً محورياً في تشكيل وعي الأفراد
والمجتمعات، ويزداد الجدل حول حدود حرية التعبير وأمانة الكلمة، وهل هي مجرد حق
شخصي يمارسه الفرد بلا ضوابط، أم أنها مسؤولية أخلاقية وشرعية تُحاسب عليها القلوب
والألسن قبل الأوراق والشاشات؟
إن اختلاف
الإجابات عن هذا السؤال ينبع من تفاوت الفهم لطبيعة الكلمة، ومن يدرك مقصد الشرع
في حفظ الأمانات وصيانة الحقوق، يدرك أن الكلمة ليست أداة للتسلية أو التشهير، بل
قوة مؤثرة قد ترفع أمة أو تهوي بها.
فمنهم من يتعامل
مع حرية الكلمة وكأنها مطلقة، لا يقيّدها صدق ولا مصلحة، ومنهم من يعي أن الشرع
جعل للكلمة ضوابط تحمي الحق وتمنع الباطل، وجعل الصدق والإخلاص هما أساس تأثيرها،
تصديقاً لقول الله تعالى: (مَا
يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، وقوله
سبحانه: (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (الأحزاب).
فالكلمة الصادقة
ليست مجرد خبر، بل رسالة أمانة، وهي وسيلة لتحقيق الغايات النبيلة التي أمر الله
بها، وليست غاية في ذاتها؛ فالغاية من الكلمة الصادقة هي نصرة الحق، وإقامة العدل،
وحفظ كرامة الإنسان.
الكلمة
قوة لا عبث
إن للكلمة قوة
تعادل قوة السلاح، فهي تشعل الحروب كما قد تطفئها، وتبني جسور المحبة كما قد تزرع
بذور الفتنة، وهذا ما يجعلها تحتاج إلى إيمان راسخ، وأخلاق ثابتة، وعقل راجح قبل
أن تُطلق.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (رواه
البخاري، ومسلم)، وقال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (الأحزاب:
70).
وكم من كلمة
هوجاء أوقعت الفتن وأزهقت الأرواح! وكم من كلمة صادقة كانت سبباً في نصرة المظلوم
وكشف الحقائق! لذلك كان ضبط اللسان من علامات كمال الإيمان، كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (رواه البخاري، ومسلم).
الصحافة
والإعلام في ميزان الشرع
الصحافة
والإعلام في عصرنا ليست مجرد أدوات نقل، بل مؤسسات تؤثر في صنع الرأي العام
وتوجيهه، وهنا يأتي دورها في ميزان الشرع؛ نقل الحقيقة بلا تحريف، وتقديم المعلومة
موثقة لا مشوهة، والابتعاد عن نشر الشائعات أو المبالغات التي تثير الفتنة.
قال تعالى
محذراً من نقل الأخبار دون تثبت: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:
6).
والإعلامي أو
الصحفي في الشريعة مؤتمن على الكلمة كما يؤتمن القاضي على الحكم، وكما يؤتمن
الشاهد على الشهادة، فإن خان أمانته بالكذب أو التضليل فقد أفسد في الأرض، وإن أدى
الأمانة بالصدق والعدل فقد أعان على إقامة الحق.
شروط
الكلمة النافعة
اشترط العلماء
والمربّون جملة من الضوابط حتى تكون الكلمة نافعة ومأجورة، منها:
1- صدق النية:
فالكلمة لا تُقبل عند الله إلا إذا قيلت ابتغاء مرضاته ونصرة الحق، لا لمصلحة
شخصية أو رياء، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (رواه البخاري،
ومسلم).
2- التثبت من
المعلومة: فلا يجوز نشر خبر قبل التأكد من صحته، لأن نشر الكذب ولو بلا قصد هو
مشاركة في الإثم.
3- حسن الأسلوب:
فالحق قد يُرد إذا جاء بأسلوب فظ أو جارح، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83).
4- مراعاة
المصلحة العامة: فقد يكون نشر المعلومة صحيحاً، لكن توقيتها أو طريقة عرضها تضر
أكثر مما تنفع.
5- الابتعاد عن
الغيبة والنميمة: لأن كشف العورات أو تتبع الزلات بحجة الصحافة يناقض أخلاق المهنة
والشرع.
جزاء
الصحفي الصادق الذي يموت شهيدًا
إن الصحفي الذي
ينقل الكلمة بصدق ويتحرى الحقيقة دفاعًا عن المظلومين وكشفًا للباطل، سيكون بمشيئة
الله في منزلة الشهداء إذا قُتل في سبيل أداء رسالته في قول الحق، خاصة إذا كان
عمله نصرة لدين الله أو دفاعًا عن حقوق العباد وأعراضهم وأوطانهم.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره
ونهاه فقتله» (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وهذا يشمل كل من يجهر بكلمة الحق في
وجه الظلم والعدوان، ومنهم الصحفي المخلص الذي يصدع بالحقيقة دون خوف إلا من الله،
كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» (رواه أحمد،
وأبو داود، والترمذي).
فإن مات الصحفي
في هذا السبيل، فهو ممن يرجى أن ينال أجر الشهيد، حيث قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، وله من الكرامة عند الله ما يليق بصدق نيته
وعظمة تضحيته، ويجري عليه أجر البلاغ عن الحق ونصرته ما دام أثر كلمته باقياً بعد
وفاته.
الكلمة
أمانة ومسؤولية
إن الكلمة
أمانة، ومنبر الإعلام والصحافة سلاح ذو حدين، فمن استعمله لنصرة الحق ورفع المظالم
فهو في سبيل الله، ومن استعمله لنشر الباطل أو تضليل الناس فهو شريك في الفساد.
ولهذا كانت
الكلمة الصادقة في ميزان الإسلام عبادة إذا قصد بها الخير، وفتنة إذا أريد بها
الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد».
بهذه المسؤولية
تنجو الأمم من التضليل، وتنتصر للحق، ويكون الإعلام منبراً للهداية لا منصة
للفتنة.