أهم القيم الاقتصادية في القرآن الكريم وتأثيرها العميق
نتناول في هذه
المقالة الموجزة ما يتعلق بالإطار القيمي للنشاط الاقتصادي في القرآن الكريم،
ويتضمن هذا الإطار القيمي مجموعة من مفردات القيم التي تنبثق من الرؤية القرآنية
لحركة معاش الإنسان وتطور هذه الحركة وعوامل الضبط فيها بما يضمن تحقيق المصلحة
الإنسانية الفردية والجماعية على السواء، ونشير فيما يلي إلى أهم متضمنات هذه
القيم.
1- قيمة الاستمتاع والانتفاع من ثروات الطبيعة وخبراتها:
إن استمتاع
الإنسان بالقيم الأولية والنفعية مباح ولا غبار عليه، لكن تختلف الرؤية القرآنية
عن المنظور الوضعي فيما يتعلق بمسألة الانتفاع والاستمتاع من ثروات الطبيعة؛ حيث
يقوم الاقتصاد في الفكر الوضعي المعاصر على تعظيم نزعة الاستهلاك، بل تقوم عليها
اقتصادات النظام الرأسمالي، ويستخدم في ذلك نتائج علوم النفس والاجتماع وغيرها من
أجل تعزيز هذه النزعة في الإنسان لتحقيق أكبر ربح ممكن.
وقد أدى تعاظم
نزعة الاستهلاك إلى تراجع قيمة الإنتاج لا سيما في دول العالم الإسلامي، وكان ذلك إحدى
نتائج العولمة الاقتصادية.
أما الرؤية
القرآنية، فإنها مع إباحتها للانتفاع بكل ثمار وثروة الطبيعة التي خلقها الله
تعالى، إلا أنها أرست قيم الوسطية عند الإنسان المستهلك، وحذرت من التبذير
والإسراف؛ (وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) (الأعراف:31)، (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الأنعام:217)، فالمسلم ينفق على قدر حاجته فقط، وينفق
باقي المال في مصارفها التي قررها الشرع، أو يساهم فيما يزيد الإنتاج ويوفر فرصًا
للعمل.
2- قيمة العمل:
يرفع القرآن
شعار العمل الصالح، ويختلف هذا المفهوم عن مفهوم العمل في الرأسمالية والاشتراكية،
ومرد هذا الاختلاف إلى الفروق الجوهرية بين الأهداف العالمية التي يرمي القرآن إلى
تحقيقها ويستوحي منها مفاهيمه الخلقية، والغايات المحدودة التي تستهدفها المجتمعات
الرأسمالية والمادية.
من ناحية أخرى،
يُعد العمل الوسيلة الأساسية للتملك في الإسلام بكل أشكاله، وقد وضع القرآن ضوابط
لهذا العمل ودعا إلى تجنب أشكال التملك وزيادة الثروة بطرق تهدد سلامة المجتمع
وأمنه الداخلي، فاعتبر السرقة من الكبائر، وحرم الربا الذي يزيد أصحاب الأموال غنى
ويزيد الفقراء فقرًا، وأحل البيع؛ (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).
يتسع مفهوم
العمل في الرؤية القرآنية ليتضمن العمل في أبسط صوره من إعمال العقل إلى اليدين
والحواس، هذا النموذج الذي أسس لحضارة الفسيلة؛ فالعمل فيه حتى آخر لحظة ليس في
حياة الإنسان الفرد فحسب، ولكن حتى آخر لحظة في حياة الكون كله.
إن النشاط
الاقتصادي الذي يقوم به المسلم يدخل في نطاق مفهوم العبادة بمفهومها الجوهري، بشرط
تحقيق أمرين؛ أن يكون ذلك النشاط محقِّقًا لمقاصد الشرع في الخلق والعمران،
والثاني أن يكون خالصًا لوجه الله وهو ما يتبعه شرط لازم وهو توافر الإحسان في ذلك
العمل الذي يقوم به سواء كان عملًا ذهنيًا أو ماديًا.
ومبدأ الاعتقاد
في القرآن يقوم على ربط الإيمان بالعمل، فلا إيمان بلا عمل، والعمل دون إيمان
كسراب بقيعة، والتقاء العمل بالإيمان يحقق المنهج الواقعي للفكر الإسلامي، ويصبغ
الشخصية المسلمة بالإيجابية، فلا رهبنة في الإسلام، ولا انعزال عن الواقع أو
المجتمع؛ بل مشاركة ومبادرة ومغامرة لتحقيق العمران.
وفي هذا الصدد،
يقرر القرآن الحكيم مبادئ عدة لربط الإنسان بواقعه ومجال أنشطته الاجتماعية
والإنسانية المختلفة، هذه المبادئ تقع بين القدرة الإنسانية وقابلية الطبيعة
للتطويع من خلال المبدأ القرآني التسخير، فالنفس والطبيعة مهيأتان لإنجاز العمل والعمران،
ويشحذ المنهج القرآني همة الإنسان للعمل في كل وقت حتى نهاية الكون، فإذا وقعت هذه
النهاية وفي قدرة الإنسان القيام بحركة بسيطة مثل غرس الفسيلة فليقم بهذه الحركة.
إنه تقدير من
المنهج لخاصية العمل وتقديس له من أجل الإنسان ارتقاءً لمهاراته وتطويرًا لحياته
وممارسة لوظيفته، ولهذا ربط العلماء في تعريف الإيمان جانبين؛ جانب الإقرار
باللسان والتصديق بالقلب، وجانب العمل أو تصديق الأركان والجوارح.
3- قيمة الإنفاق:
ينهى القرآن عن
اكتناز المال والثروات؛ (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34)، ويدعو إلى الإنفاق،
فالإنسان مستخلَف في المال وليس مالكه؛ (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد: 7)،
ومن توجيهات الإنفاق التي قررها الوحي إنفاق العفو؛ (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة:
219)، والعفو من المال: ما زاد عن النفقة والطيب الذي تسمح به النفس.
ويدعم ذلك أيضًا
قوله تعالى: (أَنفِقُواْ مِن
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (البقرة: 167)؛ والطيب في الشرع: ما كان
متناولًا من حيث ما يجوز، ومن المكان الذي يجوز فإنه متى كان كذلك كان طيبًا
عاجلًا وآجلًا، وهو أيضًا ما تطيب به النفس، فنفع الفرد والجماعة والمجتمع لا يكون
إلا بالطيب لا الخبيث.
ويعدد القرآن
مسارات الإنفاق ويجمعها كلها في كلمة الخير فلا إنفاق في إثم أو شر؛ (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215).
إن القرآن يدفع
المسلم دفعًا إلى الإنفاق الطيب، بل يربط بين منع الإنفاق وبين التكذيب بالدين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون)، وحث القرآن في مواضع متعددة على الإنفاق.
وفي مقابل حث
القرآن على الإنفاق الراشد والموجه لخدمة الفرد والجماعة، نهى في ذات الوقت عن
البخل والإمساك، وهي القيم المضادة لقيمة الإنفاق؛ (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ) (الإسراء:
29)، (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) (محمد: 38)،
فالصورة المثلى للإنفاق الوسط الحق بين الإسراف والإمساك والتبذير والبخل وغَل
اليد أو بسطها كل البسط.
4- قيمة المشاركة:
يحرم القرآن
الاحتكار وهو قيمة سلبية في مجال النشاط الاقتصادي بصفة خاصة وفي مجال النشاط
الإنساني بصفة عامة، ونبه إلى خطورة اكتناز المال في يد فئة؛ (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ) (التوبة: 34)، وأكد بديلاً له على قيمة المشاركة والتعاون
والتقاسم؛ (مَّا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) (الحشر: 7)، إن قيمة المشاركة هي
الأصل في صور النشاط الاقتصادي الذي هو بالأساس مرتبط بالله وينضبط بضوابطه في
البيع والشراء وفي الحركة والعمل.
5- قيمة العدالة الاجتماعية:
يؤكد القرآن قيمة
العدالة، وتأتي هذه القيمة لتؤكد طبيعة نظرة القرآن إلى الحياة الإنسانية، حيث
تجعل العدالة الاجتماعية عدالة إنسانية شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية، وقد
فرض القرآن فروضًا شرعية عديدة تتحقق العدالة الاجتماعية تحققًا كاملًا منها: الزكاة:
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون: 4)، والصدقات: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) (الحديد: 18).
6- قيمة المحافظة على المال:
من القيم
الأساسية التي حرصت على تثبيتها منظومة القيم القرآنية في مجال النشاط الاقتصادي
هي قيمة المحافظة على المال؛ لأن به قيام للفرد والجماعة في واقع الحياة المادية،
بل والمعنوية أيضًا؛ يقول تعالى: (وَلَا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء:
5)، كما رغب الله تعالى في حفظ المال.
ويعد المال
أساسًا ليس فقط في القيام بجوانب المعاش الإنساني المادي، بل هو أيضًا أساس في
القيام بالجوانب العبادية في الإسلام كالزكاة والحج على سبيل المثال، ويعلل الرازي
في تفسيره حول هذه القيمة بقوله: إن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام
بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال؛ لأن به يتمكن
من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من
أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة.
اقرأ أيضاً:
- المال.. بين القرآن والاقتصاد الوضعي
- مكانة المال العام في الإسلام
- العدالة الاجتماعية حين تكون من أعلى الهرم