مكانة المال العام في الإسلام

للمال العام في الإسلام أهمية كبيرة، تظهر من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين أنواعه، وتفصل أحكامه، ومن خلال ما دونه فقهاء السياسة الشرعية شرحاً وبياناً لما وردت من النصوص، واستنباطاً لما لم يأت النص عليه من النوازل والمستجدات، من أجل مواكبة تغيرات الزمان والمكان والعوائد والأحوال. 

1- المال العام مال الله تعالى: 

وسمي بذلك لخطورة شأنه، وعظم الحقوق المتعلقة به، وقد وردت هذه التسمية في نصوص القرآن والسُّنة، ودرج على ألسنة الفقه المالي في الإسلام، قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33)، وعن نافع قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاذ بن جبل وإلى أبي عبيدة بن الجراح حين بعثهما إلى الشام: "أن انظروا إلى رجال من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم وأوسعوا عليهم فأغنوهم من ‌مال ‌الله عز وجل"(1). 

2- المال العام أمانة للشعب في يد الحكام والولاة: 

المال العام ملك للشعب في يد الحكام والولاة، وتوصيفه الشرعي أنه "أمانة"، وليس لأحد حق التصرف في المال العام بطرق مشبوهة، أو لأغراض شخصية، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء:58)، وسمى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة آية الأمراء لاشتمالها على أهم الواجبات السياسية عليهم، وهي تأدية الأمانات إلى أهلها، وهي في الجملة: الولايات والأموال(2). 

3- حفظ المال من الضروريات الخمس: 

يتأكد وجوب حفظ المال حين يكون مالاً للأمة، قال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (النساء: 5)، وقوله: (جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا): قال القرطبي: "أي لمعاشكم وصلاح دينكم"(3)، قال الألوسي: "جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون، فلو ضيعتموه لضعتم"(4). 

وجوب حفظ المال العام 

حفظ المال العام من آكد الواجبات على الحكام والولاة، لأن به قوام حياة الناس، وتحقيق مصالحهم المختلفة، فبالمال العام توفر السيادة والاستقلال الغذائي، وتصرف رواتب الموظفين، وتبنى المدارس والمستشفيات، وتشق الطرق والشوارع، وتصنع أو تشترى الأسلحة للدفاع عن الوطن. 

ومن التدابير الشرعية لحفظ المال العام ما يلي: 

1-  غرس قيم النزاهة والعفة والأمانة في الناشئة: 

ينبغي غرس قيم النزاهة والعفة والأمانة ونحوها في الناشئة، وتضمين ذلك عبر المناهج الدراسية في جميع المراحل، ليكبروا عليها ويطبقوها عند تقلد الوظائف والمناصب، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن لقمان عليه السلام في وصاياه لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، وقوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأحد صغار صحابته: "يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"(5). 

2- تولية الحفيظ العليم على المال العام: 

لا يجوز التولية على المال العام إلا من كان حفيظاً عليماً، صيانة له من الإنفاق في غيره مصارفه، وحفظاً له من السرقة والغلول والتبذير، قال تعالى حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، ويستفاد من الآية النهي عن تولية غير العالم والمبذر والغاش، ولو كان عالماً، فلا بد من العلم والأمانة معاً. 

3- على الوالي على المال العام تأدية ما اؤتمن عليه: 

على كل من كل مؤتمن أداء ما اؤتمن عليه، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) (البقرة: 283)، وقوله تعالى: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)، عام في كل أمانة، ويتأكد وجوب تأديتها كل عظم شأنها واشتد خطورتها، والإمام أو الوالي مؤتمن على أموال الأمة، ويجب عليه أن يتقي الله في حفظها وأدائها إلى من ائتمنوه"(6). 

والتصرف في المال العام بغير وجه حق خيانة، وعن عبدالله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، ‌وإذا ‌حدث ‌كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"(7). 

4- محاسبة الحكام والولاة على المال العام: 

على السلطات أن تحاسب الحكام والولاة على المال العام، ولا يتركوهم يتصرفون في المال العام بدون مراقبة، ومقاضاتهم عند كل تفريط وتساهل في حفظه، فعن ابن سيرين، قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر: "يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت ‌مال ‌الله؟ قال: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، ولم أسرق ‌مال ‌الله، قال: "فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم؟ فقال: خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق، وسهامي تلاحقت، فقبضتها منه، قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين"(8). 

5- عقوبة التفريط في المال العام، عقوبة تعزيرية: 

يرجع في تحديد عقوبة التفريط في المال العام إلى تقدير الحاكم، حسب درجة التفريط في المال العام قلة وكثرة، خطأ وعمدا، وحسب الإجراءات القضائية المعروفة في الشريعة الإسلامية، والقوانين المنظمة لإدارة المال العام. 

6- مسؤولية الشعب في حفظ المال العام: 

لكل فرد في المجتمع مسؤوليته في حفظ المال العام، وذلك بالاحتساب على ولاة المال العام، وأمرهم بالمعروف ونهي عن المنكر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.."(9)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"(10). 

7- الوعيد الشديد في التفريط في المال العام: 

التفريط في المال العام من الكبائر التي توعد الله تعالى مرتكبيها بالعظيم الأليم، ما لم يتب إلى الله تعالى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء)، وعن خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:‌"إن ‌رجالاً ‌يتخوضون ‌في ‌مال ‌الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة"(11)؛ ومعنى "‌يتخوضون ‌في ‌مال ‌الله"؛ أي: "يتصرفون في مال بيت المال، ويستبدون بمال المسلمين"(12). 

قدوات من تاريخ الإسلام في حفظ المال العام 

يوجد في تاريخنا الإسلامي خلفاء وولاة عدول ضربوا أروع الأمثلة على الحكومة الرشيدة، وحسن إدارة شؤون الأمة العامة، ويعتبرون قدوات لكل حاكم أو وال مسلم في كل زمان ومكان، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: 

1- النبي في تصرفاته بمقتضى الإمامة: 

القدوة الأعظم في حفظ المال العام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان بيد أموال الأمة، وذلك تصرفاته بمقتضى الإمامة، فهو صلى الله عليه وسلم في زمنه إمام المسلمين وسائسهم ومدبر شؤونهم العامة، وقد اتخذ بيتا للمال وولى عليه بعض أصحابه، وكان الصرف منه بأمره صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما ‌أعطيكم ‌ولا ‌أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"(13). 

2- الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: 

من القدوات الحسنة في حفظ المال العام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كان عمر يحلف على أيمان ثلاث، يقول: والله ‌ما ‌أحد ‌أحق ‌بهذا ‌المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله"(14). 

3- عمر بن عبدالعزيز: 

وممن قدم درسا عظيماً في محاربة الفقر والبطالة من الخلفاء في تاريخ الإسلام عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، فعن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: "إنما ولي عمر بن عبد العزيز: ثلاثين شهراً ألا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيه، فلا يجده، وقد ‌أغنى ‌عمر ‌الناس"(15). 

تلكم نبذة يسيرة عن واجب حفظ المال العام وخطورة التفريط فيه في الشريعة الإسلامية، يمكن أن تساهم في التوعية والتوجيه والإرشاد لحسن إدارة المال العام، بالإضافة إلى القوانين والمراسم الإدارية، فلا بد من تعزيز الجانب الديني في خططنا الإصلاحية وسياساتنا التغييرية، مصداقاً لقول الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: 9). 

 





________________________ 

(1) أحاديث عفان بن مسلم، برقم (28) ص 21، الناشر دار الحديث- القاهرة، 1424هـ. 

(2) انظر: السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 4الناشر دار ابن حزم، ط4، 1440هـ. 

(3) الجامع لأحكام القرآن (5/31). 

(4) روح البيان، للألوسي (2/165)، الناشر دار الفكر-بيروت 1431هـ. 

(5) مسند أحمد (4/ 487)، برقم (2763). 

(6) من المقاصد الكلية للسياسة الشرعية، للدكتور إنجوغو صمب، ص138، الناشر مبدعون للنشر والتوزيع 2024م. 

(7) صحيح البخاري (34). 

(8) الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام (342)، الناشر دار الفكر-بيروت 1431هـ. 

(9) صحيح مسلم (49). 

(10) صحيح مسلم (55). 

(11) صحيح البخاري (2950). 

(12) شرح صحيح البخاري، لإسماعيل بن محمد الأصفهاني (4/365)، الناشر دار أسفار- الكويت 1442هـ. 

(13) صحيح البخاري (2949). 

(14) مسند أحمد (292). 

(15) سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/131)، الناشر مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ. 

 


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة