إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (31)
اختيار الزهد والورع
قال سفيان الثوري: دخلت على بنت أم حسان الأسدية وفي جبهتها مثل ركبة العنز من أثر السجود، وليس به خفاء، فقلت لها: ألا تأتين عبدالله بن شهاب فرفعْتِ إليه رقعة لعله أن يعطيك من زكاة ماله، ما تغيرين به بعض الحالة التي أراها بك؟ فقالت: يا سفيان، لقد كان لك في قلبي رجحان كثير أو كبير، فقد ذهب الله برجحانك من قلبي، يا سفيان، تأمرني أن أسأل الدنيا من لا يملكها؟ وعزته وجلاله إني أستحي أن أسأله الدنيا وهو يملكها(1).
لقد نشأت
الحضارة الإسلامية في بيئة تُعلي من قيمة القلب، وتربّي على صفاء الباطن قبل كثرة
العمل، وتُذكّر الإنسان دائماً بأن الرقي الحقيقي ليس في وفرة الممتلكات، بل في
سمو الاتجاه نحو الله، فمنذ عصر النبوة والخلافة الراشدة، نشأت منظومة تربوية
متكاملة تغرس في النفوس الزهد اختياراً لا اضطراراً، والورع تقوى لا تكلّفاً؛
منظومة أثمرت علماء ربّانيين، وقادة زاهدين، وجنوداً لا يغريهم إلا رضا الله.
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على اختيار الزهد والورع
1- الاكتفاء باليسير من الدنيا وعدم الاغترار بها:
روى الحاكم بسند
صححه الذهبي، قَالَ: دَخَلَ سَعْدٌ عَلَى سَلْمَانَ يَعُودُهُ، قَالَ: فَبَكَى،
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ؟ تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، وَتَرِدُ عَلَيْهِ الْحَوْضَ
وَتَلْقَى أَصْحَابَكَ، قَالَ: فَقَالَ سَلْمَانُ: أَمَا إِنِّي لَا أَبْكِي جَزَعاً
مِنَ الْمَوْتِ وَلَا حِرْصاً عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِن رَسُول اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْداً حَيّاً وَمَيِّتاً، قَالَ: «لِتَكُنْ بِلُغَةُ
أَحَدِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا مِثْلَ زَادِ الرَّاكِبِ».
وروى البيهقي عن
الحسن أن سلمان الفارسي أتى أبا بكر الصديق يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال:
سلمان أوصني، قال أبو بكر: إن الله عز وجل فاتح عليكم الدنيا فلا تأخذن منها إلا
بلاغاً، وقال ابن مسعود: الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع
من لا علم له(2).
وروى البيهقي عن
عمرو بن العاص، أنّه كان يخطب بمصر يقول: ما أبعد هديكم من هدي نبيّكم صلى الله
عليه وسلم، أمّا هو فكان أزهد النّاس في الدّنيا، وأمّا أنتم فأرغب النّاس فيها، وعن
أبي معاوية قال: ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي: لا تغرنك الحياة واحذر
القبر إن للقبر شأناً(3).
2- التواصي بالزهد والورع:
روى البيهقي عن
موسى بن عتبة قال: كتب أبو الدّرداء إلى بعض إخوانه: أمّا بعد، فإنّي أوصيك بتقوى
الله، والزّهد في الدّنيا، والرّغبة فيما عند الله، وعن الرّبيع بن سليمان عن
الشّافعيّ قال: يا ربيع، عليك بالزّهد، فللزّهد على الزّاهد أحسن من الحليّ على
المرأة النّاهد، وقَالَ رَجُلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: أَوْصِنِي، قَالَ:
أُوصِيكَ أَنْ تَكُونَ مَلِكاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ: كَيْفَ لِي
بِذَلِكَ؟ قَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا(4)، وقال الضّحّاك بن
عثمان: أدركت النّاس وهم يتعلّمون الورع، وهم اليوم يتعلّمون الكلام(5).
3- دوام الإنفاق مع نسيان النفس:
روى الترمذي عن
عروة بن الزّبير قال: ما كانت عائشة أمّ المؤمنين تستجدّ ثوباً حتّى ترقّع ثوبها
وتنكّسه، قال: ولقد جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم،
قالت لها جاريتها: فهلّا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: «لو ذكّرتني لفعلت،
وقال يحيى بن معاذ: الزّهد يورث السّخاء بالملك(6).
4- الزهد في الشهرة:
قَالَ
الْفُضَيْلُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُعْرَفَ فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ ألا
يُثْنَى عَلَيْكَ(7)، وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو الزهد في
الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك(8).
5- تحري الحلال وصيانة المال والشكر على كل حال:
قال الحسن: ليس
الزّهد في الدّنيا بتحريم الحلال وإضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق
منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو لم تصبك(9)،
وسئل الزّهريّ عن الزّهد في الدّنيا، فقال: ألا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره؛
أي لا يقصّر في شكر الحلال إذا أصابه، ويصبر عن الحرام إذا اشتهاه ولا يواقعه(10)،
وقال الغزاليّ: لن يعدم المتورّع عن الحرام فتوحاً من الحلال(11).
6- التقليل من الطعام:
عَنْ مَيْمُونِ
بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ(12)،
وعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُوتِيَ بِشَيْءٍ يُقَالُ لَهُ
الْكَبْلُ، فَقَالَ: مَا نَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: إِنَّهُ يُمْرِيكَ قَالَ:
إِنَّهُ يَمُرُّ بِيَ الشَّهْرُ مَا أَشْبَعُ إِلَّا الشَّبْعَةَ وَالشَّبْعَتَيْنِ(13)،
وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ ابْنًا لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، أَكَلَ حَتَّى بَشِمَ،
فَقَالَ سَمُرَةُ: لَوْ مِتَّ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْكَ(15).
7- كثرة الشهادة لهم بالزهد:
روى الطبراني
عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِاللهِ، قَالَ: أَنْتُمْ أَكْثَرُ
صَلَاةً، وَأَكْثَرُ جِهَاداً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم،
وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ؟
قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ.
وعَنْ قَبِيصَةَ
بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ(15)، وعن تميم بن حذلم قال: جالست أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، وما رأيت أحداً أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحب
إليَّ أن أكون في مسلاخه منك يا عبدالله بن مسعود(16)، وعن عِمْرَانُ
بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا
يَرْزَأُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَمِيرًا وَلَا خَلِيفَةً وَلَا غَيْرَهُ، وَلَوْ
تَعَلَّقَ إِنْسَانٌ بِرِدَائِهِ لِرَمَى بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ سَلَّامٌ: مَا
سَمِعْتُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَحْسَنَ
تَجَمُّلاً مِنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ(17).
دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على اختيار الزهد والورع
1- تحصيل محبة
الله ومحبة الناس: روى ابن ماجة بسند صححه الألباني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِيِّ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي
اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «ازْهَدْ فِي
الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ
النَّاسُ».
2- طلب الآخرة:
روى البخاري عن عليّ بن أبي طالب قال: ارتحلت الدّنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة
مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء
الدّنيا؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي
واقد اللّيثيّ قال: تابعنا الأعمال أيّها أفضل فلم نجد شيئاً أعون على طلب الآخرة
من الزّهد في الدّنيا.
وروى البيهقي عن
علي بن أبي طالب أنّه قال: طوبى للزّاهدين في الدّنيا، والرّاغبين في الآخرة،
أولئك قوم اتّخذوا أرض الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والكتاب شعاراً،
والدّعاء دثاراً، ورفضوا الدّنيا رفضاً.
3- قصر الأمل في
الدنيا وكثرة ذكر الموت: روى البيهقي عن وهيب بن الورد قال: نظر أبو مطيع يوماً
إلى داره، فأعجبه حسنها فبكى، ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسروراً،
ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرّت بالدّنيا أعيننا، وقال الأوزاعيّ: ما أكثر
عبد ذكر الموت إلّا كفاه اليسير(18)، وقال سفيان الثّوريّ: الزّهد في
الدّنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة(19).
4- بلوغ درجة
النبلاء: قال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال
الناس، والتجاوز عنهم(20).
5- التحلي بزينة
العلم: قال الحسن البصريّ: أفضل العلم الورع والتوّكّل(21)، وقال
الشّافعيّ: زينة العلم الورع والحلم(22).
6- التمسك بملاك
الدين وخير الدنيا والآخرة: عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ أُحِبُّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَقَالَ أَبُو إِيَاسٍ: فَأَيْنَ
الْوَرَعُ؟، قَالَ: بَهٍ بَهٍ، ذَلِكَ مِلَاكُ الْأَمْرِ(23)، وقال
الحسن لغلام: ما ملاك الدّين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطّمع، فعجب الحسن
منه(24)! وقال حبيب بن أبي ثابت: لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه،
ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعاً مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقّاً(25)،
وعن محمّد بن كعب القرظيّ قال: إذا أراد الله بعبد خيراً أزهده في الدّنيا، وفقّهه
في الدّين، وبصّره عيوبه، ومن أوتيهنّ فقد أوتي خيراً كثيراً في الدّنيا والآخرة(26).
7- السعي إلى
تخفيف الحساب يوم القيامة: قال سفيان الثّوريّ: عليك بالورع يخفّف الله حسابك، ودع
ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشّك باليقين يسلم لك دينك(27).
اقرأ أيضاً
إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية
لغة الدعاة بين التكليف والابتذال
___________________
المراجع:
(1) حلية
الأولياء: الأصبهاني (7/ 9).
(2) المنهاج في
شعب الإيمان: الحليمي (3/ 388).
(3) أهوال
القبور: ابن رجب الحنبلي، ص 158.
(4) الزهد: ابن
أبي الدنيا، ص 72.
(5) الورع: ابن
أبي الدنيا، ص 50.
(6) بستان
العارفين: النووي، ص 42.
(7) تفسير ابن
كثير (6/ 306).
(8) حلية
الأولياء (7/ 69).
(9) بصائر ذوي
التمييز (3/ 140).
(10) المنهاج في
شعب الإيمان (3/ 386).
(11) إحياء علوم
الدين (1/ 223).
(12) الزهد: وكيع،
ص 306.
(13) الزهد: أحمد
بن حنبل، ص 157.
(14) الزهد: وكيع،
ص 302.
(15) الزهد: ابن
أبي الدنيا، ص 166.
(16) صفة الصفوة
(1/ 152).
(17) الزهد: أبو
داود، ص 343.
(18) الأموال: ابن
زنجويه، ص 61.
(19) بستان
العارفين، ص 42.
(20) أدب الدنيا
والدين، ص 187.
(21) الزهد: أحمد
بن حنبل، ص 325.
(22) الآداب
الشرعية: ابن مفلح (2/ 45).
(23) الورع: ابن
أبي الدنيا، ص 50.
(24) مدارج
السالكين (2/ 23).
(25) الورع: ابن
أبي الدنيا، ص 60.
(26) المنهاج في
شعب الإيمان (3/ 389).
(27) الورع: ابن
أبي الدنيا (112).