ادخار الذهب.. بين الشريعة والمكسب

تراودك العديد من الأفكار عن المستقبل؟ لا تدري كيف تؤمّن نفسك ضد تقلبات الحياة؟ لديك صراع مستمر حول مبادئ الشريعة وطرق الادخار؟ تخشى أن تبيع دينك بدنياك؟

عشرات من التساؤلات تجول في عقولنا حول الادخار والاستثمار والتحوط من تقلبات المستقبل، لا سيما مع زيادة المحن والأزمات في العصر الحالي، الأمر الذي جعل الناس تفتش عن أنسب طرق الاستثمار وأبعدها عن الشبهات، ولا يتناقض ذلك مع الشريعة الإسلامية التي رسمت للإنسان طريقًا يسير به نحو الكرامة والعفاف، وأمرته بالعمل والاجتهاد والسعي، وجعلت اليد العليا المنفقة، خير من اليد السفلى السائلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، وعظم الإسلام العمل، وجعل الساعي على قوته وأهله كالمجاهد في سبيل الله، وحث على الادخار والتخطيط المالي الحكيم، وجعل ذلك من باب التبصر والتوازن وحفظ النفس، لا من باب الشح والبخل، فالمسلم مطالب بالموازنة بين الإنفاق والإمساك، وتدبير المال بعقل راجح، ونظر بعيد.

وقد جسد نبي الله يوسف عليه السلام مفهوم الادخار والتحوط والنظرة المستقبلية للأمور، فقال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف: 47)، ثم قال لملك مصر: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، فكان ذلك مثالًا للادخار والإدارة الرشيدة، التي تحفظ للناس أقواتهم، وتؤمنهم في سنوات العسر، ويعد الذهب من أنسب وسائل الادخار عبر العصور لثبات قيمته، وسهولة تخزينه وتداوله، وقد أقرت الشريعة ادخار الذهب وامتلاكه وفق الحدود والضوابط التي وضعتها، هادفةً إلى تحقيق التوازن بين السعي والكسب، وبين الادخار والإنفاق، لتحقيق الأمن المالي للفرد، والاستقرار الاقتصادي للمجتمع.

ادخار الذهب مصدر للأمان والثروة

في عالم مليء بالتوترات والاضطرابات والأزمات الاقتصادية والسياسية، تتراجع فيه قيمة العملات، وتتقلب فيه أسعار النفط، وتفقد الأسهم استقراها، يبقى الذهب الملاذ الآمن الذي تستند إليه الثروات، ليصفه البعض بعملة الثقة العالمية، ووفقًا لتقرير مجلس الذهب العالمي (World Gold Council) لعام 2024م، بلغ إجمالي الطلب العالمي على الذهب نحو 4448 طنًا، مصحوبًا بزيادة هائلة في الطلب الاستثماري، خاصًة من قبل البنوك المركزية التي اشترت أكثر من 1037 طنًا خلال العام، وتعكس هذه الإحصاءات الكيفية التي ينظر بها صناع القرار والسياسات النقدية إلى الذهب كأداة لحماية الاقتصاد.



ادخار الذهب في الدول العربية والإسلامية

وعلى المستوى الفردي، فقد شهدت أسواق الذهب في الدول العربية والإسلامية ارتفاعًا ملحوظًا في شراء السبائك والعملات الذهبية، خاصة مع زيادة الأزمات السياسية، وانخفاض قيمة العملات المحلية، ووفقًا للبيانات الصادة عن مجلس الذهب العالمي عن احتياطي الذهب في الدولة العربية عام 2024م، نجد المملكة العربية السعودية تمتلك 323 طنًا من الذهب، يليها لبنان 286 طنًا، ثم الجزائر 173 طنًا، والعراق 162 طنًا، وليبيا 146 طنًا، ومصر 126 طنًا، وقطر 110 أطنان، والكويت 79 طنًا، وتعكس هذه الأرقام ثقة الدول العربية والإسلامية بالذهب كوسيلة لحماية الاقتصاد من التضخم، وتقلبات أسعار العملات.

انظر أيضاً: الذهب لا يصدأ


ادخار الذهب في الشريعة الإسلامية

لم يكن الذهب في الإسلام مجرد سلعة للبيع والشراء، بل كان عملة شرعية يستخدمها المسلمون عبر مختلف القرون لثبات قيمته عبر الزمن، وندرته الطبيعية التي تمنع التضخم، واعتراف دول العالم به، وانسجامه مع الشريعة الإسلامية من حيث تحقيق العدالة وعدم الظلم في التقدير، ودعت هذه الخصائص العديد من الاقتصاديين الإسلاميين إلى إعادة التعامل بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، أو ربط العملات الورقية باحتياطي من الذهب؛ لتقليل الاعتماد على النظام الربوي القائم على التضخم والديون.

زكاة الذهب

جعلت الشريعة الإسلامية الذهب من الأموال التي تجب فيها الزكاة إذا بلغ النصاب وحال عليها الحول، وقدر نصاب الذهب بما يعادل 85 جرامًا من الذهب الخالص (عيار 24)، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليهما الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول».

والزكاة تبقي المال وتباركه كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة»، كما تمنع احتكار الذهب وتجميده من التداول، حيث يتم إعادة تدفقه إلى الأسواق من خلال مستحقي الزكاة، وإذا كان الذهب للزينة دون قصد الادخار فلا زكاة عليه عند جمهور العلماء، ويعد من السلع التي يجوز بيعها وشراؤها بشرط التقابض الفوري، لذا لا يجوز الشراء المؤجل، أو الشراء عبر الإنترنت دون تقابض مباشر لأن ذلك من الربا.

انظر أيضاً: 3 حيل للفرار من الزكاة أبطلها الإسلام


رؤية إسلامية واقتصادية حول ادخار الذهب

اعتاد بعض الناس على ادخار الذهب لحفظ قيمة أموالهم، وحمايتها من التضخم، وهو من الأمور الجائزة شرعًا ما لم يتعاملوا به في ربا، أو تجارة محرمة، أو احتكار للسوق، بل أصبح ادخار الذهب ملاذًا آمنًا في ظل تقلبات العملات الورقية، وتعدد الأخطار السياسية، وهذا ما أثبتته العديد من الأزمات مثل جائحة كورونا، وأزمة روسيا وأوكرانيا، والتوترات الأخيرة في العلاقات الأمريكية الصينية، حيث يرتفع سعر الذهب حينما تنهار الأسواق، وهذا ما يجعله خيارًا إستراتيجيًا للادخار والاستقرار المالي للفرد والمجتمع.

دور ادخار الذهب في بناء اقتصاد إسلامي مستقر للفرد

يُمكّن الذهب المسلم من الادخار طويل الأجل دون احتمالية التعرض لأخطار التضخم أو انهيار العملية، وذلك على خلاف العملات الورقية الحالية؛ التي تفقد قيمتها بمرور الزمن، ولذا اشتهر الذهب بقدرته على حفظ قيمة المال، حيث يمنح الأفراد وسيلة ملائمة لحفظ مدخراتهم، وحماية أنفسهم وأسرهم من الغلاء وتقلبات السوق، ويضمن استقلالهم المالي، وكفايتهم الذاتية، إضافة إلى أن المعدن النفيس لا يتطلب مالاً ضخماً كبداية، فبإمكان أي شخص أن يشتري ما يناسب إمكانيته، ويزيد بعد ذلك بشكل تدريجي.

دور ادخار الذهب في بناء اقتصاد إسلامي مستقر للمجتمع

لا تقتصر أهمية الذهب على مستوى الفرد فحسب، بل تشمل المجتمع الإسلامي بأكمله، فإذا ما استخدم الذهب في التعاملات داخل المجتمع الإسلامي، أو ربط الاقتصاد بقيمته؛ فإن ذلك يحد من طباعة الأموال دون وجود ما يقابلها من قيمة حقيقية وهو من أهم أسباب التضخم، ويقضي على الربا الناتج عن القروض الورقية، والظلم الناتج عن انهيار الفوة الشرائية للطبقات الضعيفة، كما تساهم زكاة الذهب في إعادة توزيع الثروة بين مستحقيها، بما يجعل الذهب يدور بين الناس، لا يحتكر ولا يكنز، مصداقًا لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34)، وبذلك يتحقق التوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الادخار والمسؤولية.

انظر أيضاً: السودان.. جرحٌ ينزف فوق بحر من الذهب


بيع الذهب وشراؤه.. متى؟ وكيف؟

يجيب العديد من خبراء الذهب عن هذا التساؤل بأن الوقت الأنسب لشراء الذهب هو الوقت الذي يمتلك فيه الفرد مالًا زائدًا عن حاجته، فالذهب هو الوسيلة الأنسب للحفاظ على قيمة هذا المال، ولا حاجة إلى انتظار تخفيض الأسعار، أو توفير مبلغ أكثر لشراء كمية أكبر، ولا حاجة لبيع الذهب ما لم تكن في حاجة إلى رأس المال، حتى وإن زادت الأسعار بشكل غير متوقع، فقيمة الذهب الحقيقية لا تكمن في بيعه بأكثر من سعر شرائه، بل في حفظ قيمة المال، واللجوء إليه عند الحاجة ليُعيد للإنسان ثروته الحقيقية بعيدًا عن الأخطار والتضخم.

ختامًا، فإن الذهب في الفكر الإسلامي لا يقتصر على كونه معدناً نفيساً، بل أداة اقتصادية قائمة على الاستقرار والعدالة، حيث يُستخدم للادخار، والاستثمار، وحفظ قيمة المال وفقًا للضوابط الشرعية التي تحميه من الظلم والربا، وتحقق التوازن بين الفرد والمجتمع.





_________________________

https://www.gold.org/

https://n9.cl/5to8b

https://n9.cl/1i72q

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة