استبدال الليرة السورية.. طموح الاستقرار في مواجهة تحديات الواقع

أعلنت دمشق عن التفاصيل النهائية لعملية استبدال العملة الوطنية، وهي خطوة تتجاوز مجرد تغيير شكل العملة لتصل إلى الهيكلة المالية للدولة السورية الجديدة، ومع العد التنازلي لإطلاق الليرة الجديدة في 1 يناير 2026م، تدخل البلاد مرحلة «جراحة نقدية» تحمل فرصًا للتعافي وأخطاراً تقنية ولوجستية جسيمة، هذا التحول يضعنا أمام تساؤلات حول جدوى هذه الخطوة، وما الذي يضمن ألا تكون مجرد إجراء تجميلي لواقع اقتصادي يحتاج إلى إصلاح جذري؟

استبدال العملة

استبدال العملة أو إعادة تقييم العملة اسميًا إجراء تقني تقوم به الدول التي عانت من تضخم مفرط أدى لفقدان العملة قيمتها الحقيقية، وما ستفعله سورية تحديدًا هو حذف صفرين من العملة؛ أي أن كل 100 ليرة قديمة ستصبح ليرة واحدة جديدة.

هذا الإجراء لا يعني تغيير القيمة الحقيقية للأموال، وإنما تغيير في وحدة القياس فقط، فإذا كان سعر سلعة ما 10000 ليرة قديمة، سيصبح سعرها 100 ليرة جديدة، والراتب الذي كان مليوني ليرة، سيصبح 20 ألف ليرة جديدة، بما يعني أن القوة الشرائية تبقى نظريًا كما هي، لكن لغة الأرقام تصبح أبسط.

أهداف العملية.. لماذا الآن؟

تسعى الحكومة الانتقالية من خلال هذه الخطوة إلى تحقيق هدف اقتصادي يتمثل في تسهيل المعاملات النقدية بعد التضخم الهائل الذي تراكم عبر السنوات الماضية، ومحاولة بناء ثقة جديدة في القطاع المصرفي بعد التغيير السياسي الذي شهدته البلاد في ديسمبر 2024م، بالإضافة إلى:

1- استعادة السيادة النقدية: التخلص من الأوراق النقدية المرتبطة بالحقبة السابقة، واستبدال عملة جديدة بها تعكس الهوية الوطنية عبر رموز من الطبيعة والتراث السوري (كالقمح، والزيتون، والآثار التاريخية).

2- تبسيط المعاملات: إنهاء عصر الحقائب الممتلئة بالأموال لشراء السلع الأساسية، وتخفيف الضغط التقني على الأنظمة المحاسبية والبرمجية التي واجهت صعوبات في استيعاب كثرة الأصفار.

3- مكافحة الاقتصاد غير الرسمي: تهدف العملية إلى دفع الكتلة النقدية المخزنة خارج الجهاز المصرفي (في المنازل والمحال) للدخول إلى القنوات الرسمية؛ ما يمنح الدولة قدرة أكبر على إدارة السيولة.

4- تعزيز الثقة النفسية: تقديم الليرة الجديدة يعطي انطباعاً بالاستقرار، وبداية عهد اقتصادي جديد، ما يقطع الصلة نفسيًا مع صدمات الانهيار المتتالي التي عاشها المواطن السوري سابقًا.

التحديات اللوجستية والتقنية.. سباق مع الزمن والجغرافيا

أعلن المصرف المركزي السوري أن عملية التداول والتبديل تبدأ رسميًا في 1 يناير 2026م، وتستمر لمدة 90 يومًا قابلة للتمديد، غير أن عملية استبدال كتلة نقدية تراكمت عبر عقود من التضخم ليست مجرد استبدال ورق بورق، بل هي تحدٍّ معقد يواجه الدولة السورية على عدة جبهات:

1- تحديث الصِّرافات والأنظمة: تتطلب العملية إعادة برمجة شاملة لكافة أجهزة الصراف الآلي (ATM)، وتحديث أنظمة الشركات والمتاجر لتقبل فئات الليرة الجديدة، وهو أمر صعب في ظل ضعف البنية التحتية الراهنة.

2- الوصول للمناطق النائية: تواجه الحكومة تحدي إيصال العملة الجديدة إلى المناطق البعيدة، والمناطق التي كانت خارج السيطرة لفترات طويلة (مثل إدلب وشرق الفرات)؛ ما يجعل مهلة 90 يومًا قصيرة لضمان وصول النقد إلى جميع المواطنين.

3- ضغط السيولة: إن إلغاء القيود على السحوبات المصرفية بالتزامن مع التبديل قد يخلق طوابير بشرية هائلة أمام المصارف؛ ما يتطلب جاهزية أمنية وتنظيمية عالية لمنع الفوضى.

4- تعقيدات التداول المزدوج: إدارة التعامل مع عملتين في وقت واحد (القديمة والجديدة) يمثل عبئًا على الباعة، ويتطلب وعيًا شعبيًا، ورقابة لمنع استغلال هذا الارتباك في رفع الأسعار.

5- الأعباء المالية: تُمثل طباعة الفئات النقدية الجديدة، وتكاليف شحنها، ثم تجميع وإتلاف العملة القديمة، استنزافًا لخزينة الدولة في وقت تحتاج فيه سورية توجيه كافة الموارد نحو إعادة الإعمار.

استبدال العملات حول العالم.. لماذا نجح البعض وفشل الآخر؟

تُظهر التجارب الدولية أن حذف الأصفار واستبدال العملة ليس حلاً سحريًا، بل يعتمد نجاحه على السياسات الاقتصادية المرافقة له، ففي تركيا عام 2005م، نجحت الحكومة في حذف 6 أصفار من الليرة(1)؛ لأن الخطوة جاءت ضمن حزمة إصلاحات هيكلية شاملة، ونمو اقتصادي حقيقي، مع منح استقلالية تامة للبنك المركزي؛ ما ساهم في كبح جماح التضخم واستعادة الثقة دوليًا ومحليًا(2).

كما نجحت تجربة العراق عام 2003م، في استبدال كتلته النقدية بالكامل خلال 3 أشهر فقط، رغم الظروف الأمنية والسياسية المعقدة، بفضل التنسيق الدولي، والحملة الإعلامية المكثفة التي استهدفت توعية السكان، وضمان وصول النقد الجديد إلى كافة المحافظات دون استثناء(3).

في المقابل، تظهر تجارب زيمبابوي وفنزويلا الفشل الذريع في هذا الإجراء، فقد قامت هذه الدول بحذف الأصفار من عملاتها عدة مرات (وصلت في زيمبابوي إلى حذف 12 صفرًا في عام واحد)(4)، لكنها فشلت في حماية قيمة العملة، حيث كانت الأصفار المحذوفة تعود إلى الأسعار في غضون أشهر قليلة، بفعل استمرار التضخم وطباعة النقد دون غطاء إنتاجي.

حماية قيمة العملة.. هل ينجح «الصفران» في لجم التضخم؟

إن عملية حذف الأصفار إجراء تنظيمي يهدف إلى تسهيل الحسابات وتقليل كتل الورق النقدي، لكنها لا تمنح العملة قيمة شرائية من تلقاء نفسها، ولنجاح الليرة الجديدة في كبح التضخم، يجب اعتماد 3 ركائز أساسية:

1- دعم القيمة بالإنتاج الحقيقي: بتحويل الوعود الاقتصادية إلى واقع ملموس، خاصة في القطاعات الحيوية كالقمح والنفط، فزيادة الإنتاج تمثل الحماية من انخفاض العملة أمام النقد الأجنبي.

2- الانضباط المالي والرقابة: على المصرف المركزي منع طباعة الأموال دون غطاء، مع فرض رقابة حازمة لمنع التجار من «الجبر السعري» بتقريب الأسعار للأعلى عند التحويل للعملة الجديدة، فمثلاً تحويل سعر 9500 ليرة قديمة إلى 100 ليرة جديدة بدلاً من 95، فهذا يسبب تضخمًا مفاجئًا وموجة غلاء غير مبررة.

3- بناء الثقة النفسية واستقرار الأسواق: يرتبط نجاح العملية بمدى قناعة المواطن بأن العملة الجديدة مخزن حقيقي للقيمة، وهذه الثقة تأتي من خلال استقرار أسعار الصرف وسهولة المعاملات المصرفية؛ ما يدفع الناس تدريجيًا للاعتماد على الليرة، والتوقف عن الهروب نحو «الدولرة».

إن عملية استبدال الليرة السورية تمثل في جوهرها إجراءً فنيًا لتبسيط المعاملات الحسابية، وتقليل كمية الأوراق النقدية المتداولة، مع السعي لدمج السيولة المخزنة خارج الجهاز المصرفي في الدورة الرسمية، ومع ذلك لا تُعد هذه الخطوة حلاً جذريًا للتضخم بحد ذاتها، إذ يتوقف نجاحها على كفاءة السياسة المالية، وربط العملة بمؤشرات إنتاج حقيقية، وقدرة المصرف المركزي على إدارة المرحلة الانتقالية بشفافية ورقابة صارمة، وبدون توفر هذه الركائز، يبقى الاستبدال مجرد إجراء تنظيمي للدفاتر المحاسبية، دون أثر ملموس على معيشة المواطنين.

اقرأ أيضاً:

الاقتصاد السوري.. واقعوتحديات وآمال

مستقبل سورية بعد رفعالعقوبات الأمريكية

العدالة الانتقالية وحقوق الضحايا في سورية

___________________

(1) تومي عبد الرحمن، (2020)، تعثر الليرة التركية: الأسباب والتداعيات، مجلة الاقتصاد والتنمية البشرية، مجلد 10، العدد 3، متاح على:

https://asjp.cerist.dz/en/article/128994

(2) Ilker Bayir، (2021)، Currency Reform in Turkey and Lessons from Re-Denomination and Euro Changeover, Money and Economy, Vol، 6, No، 2، At: https://scispace.com/pdf/currency-reform

(3) البنك المركزي العراقي، (2004)، التقرير الاقتصادي السنوي للبنك المركزي العراقي لعام 2003- ومطلع عام 2004، متاح على:

https://www.cbi.iq/documents/AnnualEconomic_report%202003_f.pdf

(4) George Kararach, Phineas Kadenge and Gibson Guvheya، (2010)، CURRENCY REFORMS IN ZIMBABWE: AN ANALYSIS OF POSSIBLE CURRENCY REGIMES, THE AFRICAN CAPACITY BUILDING FOUNDATION، At:

https://elibrary.acbfpact.org/demo/collect/acbf/index/assoc/HASH1046/c6d71deb/5ded8961/16.dir/file%20011.pdf

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة