الأحكام الشرعية المترتبة على خذلان الجياع في غزة

تمرّ غزة بمرحلة هي الأشد قسوة في تاريخها المعاصر، حيث يُحاصر فيها أكثر
من مليوني إنسان، ويُمنعون من أبسط مقومات الحياة؛ الطعام، والماء، والدواء،
والكهرباء.. يموت الأطفال من الجوع، وتنهار الأجساد المنهكة تحت وطأة التجويع
الجماعي المتعمد، وفي هذا السياق الإنساني المفزع، تُمثّل الأزمات الإنسانية
اختباراً حقيقياً لضمير الإنسانية وقِيَمها، وفي قلب هذه الأزمات تبرز قضية
المجاعة في غزة كواحدة من أقسى المشاهد التي تُذكِّر العالم بأسره بمسؤولياته
الأخلاقية والدينية.
يتناول هذا المقال الأحكام الفقهية المترتبة على تقاعس الأفراد والمجتمعات
والدول عن إنقاذ الجياع في غزة، مستنداً إلى نصوص القرآن الكريم والسُّنة النبوية،
ومقاصد الشريعة الإسلامية.
أولاً: خذلان الجائع المسلم محرّم ومخالف لأخوة الإيمان:
يُحذّر الإسلام من عواقب التقاعس عن نصرة المظلوم، ويعدّه من الذنوب التي
تُسبّب سخط الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَضِّي بِهِ إِلَّا كَانَ فِيمَا
يَغْتَسِمُهُ مِنْ جَنَّتِي» (رواه ابن ماجة)، ومثل الدين هنا يشمل دين الحقوق
الإنسانية.
أما في الآخرة، فيُصبح الخاذلون مُحاسبين على تفريطهم، لقوله تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ
فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً
فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ) (غافر: 47)، وهذا يُظهر أنّ التبعية في الإثم تشمل حتى أولئك الذين
سكتوا عن الظلم.
في الواقع المعاصر، قد تتجسّد العقوبة الدنيوية في تفكك المجتمع وانتشار
الظلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ
بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا
إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» (رواه أبو داود).
ينظر الفقه الإسلامي إلى مسألة الإغاثة من زاويتين؛ فرض العين، وفرض
الكفاية، فإذا كان الشخص قادراً على إنقاذ جائع دون ضرر عليه، فإن الإغاثة تكون
واجبة عليه فردياً، أما إذا تعلّق الأمر بمجتمع أو دولة، فإن الواجب يصبح جماعياً،
ويشمل الدفع بالمال أو الضغط السياسي أو تقديم المعونة الغذائية.
الإسلام يحذر من
التقاعس عن نصرة المظلوم ويعدّه سبباً لسخط الله
في حالة غزة، حيث الحصار يُعيق وصول الغذاء، تتحمل الدول الإسلامية
والمجتمع الدولي مسؤولية جماعية في كسر هذا الحصار، عملاً بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ» (رواه
البخاري)، ويقرر الإسلام مبدأ الأخوّة الإيمانية كأساس للعلاقات بين المسلمين، قال
تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وهذه الأخوة تقتضي النصرة والمساعدة، لا سيما في مواطن
الحاجة والضعف.
ثانياً: إطعام الجائع من أوجب القربات:
قال الله تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
{14} يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ {15} أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد)؛ فهذه الآيات تجعل من إطعام الجائع ذي المسغبة (المجاعة)
من علامات الصدق في الإيمان والنجاة، بل جعل الله تعالى ترك إطعام الجائع من صفات
المكذبين بالدين، فقال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
{1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ) (الماعون)؛ فكيف بمن يرى ملايين المسلمين
في غزة جوعى، ويستطيع أن يُغيث، ولا يفعل؟
ثالثاً: الواجب الشرعي عند وقوع المجاعة:
أكّدت الشريعة الإسلامية أهمية التكافل الاجتماعي كأحد أركان بناء المجتمع
المسلم، يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، ويُعدُّ إطعام الجائع من أعظم صور البرّ التي حثّ
عليها الإسلام، بل جعل القرآن إنقاذ حياة الإنسان من أعظم القربات، فقال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).
وفي سياق غزة، حيث يعاني آلاف المدنيين من نقص الغذاء والدواء، يصبح
إغاثتهم فرض عين على كل قادر، وفقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ
مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ
لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ» (رواه مسلم).
رابعاً: خذلان الجياع مشاركة فعلية في القتل:
قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ) (الإسراء:
33)، ويشمل القتل في الشريعة كل تصرف يؤدي إلى هلاك النفس، ولو بطريقة غير
مباشرة، ومن ذلك منع الطعام عن الجياع، فقد قال الفقهاء: «الامتناع عن دفع الهلاك
عمن يطلب الغذاء، مع القدرة، يُعدّ قتلاً شبه عمد»؛ وعليه، فإن التقاعس عن فكّ
الحصار الغذائي عن غزة، وهو في الإمكان، قد يرقى إلى المشاركة في القتل المحرّم
شرعاً.
خامساً: الحكومات مسؤولة أمام الله عن كل جائع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته» (رواه
البخاري، ومسلم)، فالحاكم المسلم مسؤول عن كفاية شعبه وإغاثة المسلمين في العالم،
بحسب الإمكان.
التقاعس عن فك
الحصار عن غزة قد يُعدّ مشاركة في القتل شرعاً
وعندما تقع مجاعة في بلد إسلامي، أو يُحاصر المسلمون، يكون من واجب الحكام
القادرين السعي الفوري لإيصال الطعام والدواء بكل الطرق الممكنة، ولو بالضغط
السياسي أو كسر الحصار أو المعابر، وإن لم يفعلوا، فإنهم آثمون بترك فرض محتم،
ويخشى عليهم من غضب الله وعذابه، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لو أنّ
بغلة عثرت في العراق لسُئلتُ عنها: لمَ لمْ تمهد لها الطريق؟».
سادساً: الشعوب ليست معفية من المسؤولية:
قد يظن بعض الناس أن مسؤولية إغاثة غزة تقع فقط على عاتق الحكومات، وهذا
غير صحيح، بل إن الشعوب الإسلامية تتحمل نصيبها من الواجب الشرعي؛ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (رواه الحاكم، وصححه
الألباني)؛ والاهتمام لا يكون فقط بالعاطفة أو الحزن، بل بالدعم الفعلي؛ كالتبرع،
والنشر، ومقاطعة الأعداء، والضغط السياسي، والدعاء الجاد، وكل وسيلة شرعية ممكنة.
سابعاً: الصمت عن الجريمة خذلان وخيانة:
قال الله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود: 113)، والركون يشمل السكوت، أو الرضا، أو التواطؤ، أو تبرير
الظالم، وفي المقابل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).
الشعوب ملزمة
بواجب إغاثة غزة والمسؤولية لا تقتصر على الحكومات
لذا تُعتبر قضية غزة محكاً حقيقياً لمدى التزام الأمة الإسلامية بتعاليم
دينها، فبينما تُدرس أحكام التكافل في الكتب الفقهية، تُظهر الأزمات مثل هذه
الفجوة بين النصوص الشرعية والواقع، هنا يبرز دور العلماء في توضيح الواجب الشرعي،
ودور الحكام في تفعيل آليات الإغاثة، ودور الأفراد في الدعم المالي والدعائي.
كما تُذكرنا الأزمة بمبدأ «الولاء والبراء»، حيث يُحرّم الإسلام موالاة
المعتدين على المسلمين، أو السكوت عن عدوانهم، وفي الوقت نفسه، يُوجب البراءة من
الظلم وأهله، وهو ما يعنيه دعم غزة بالقول والفعل.