في حوار مع «المجتمع»..
الأكاديمي الأردني علاء موسى يقدم روشتة وقائية لحماية النشء من الاضطراب الأسري
                    عملية التربية
أخطر عملية في الوجود؛ لأن التفريط فيها ضياع للإنسان برمته وخسارة آخرته، ويكفي
ما جاء عن خطورة هذه العملية، ما حذّر منه القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).
فأكثر ما يواجه
تربية النشء ويهدد الأجيال ويضيّع الحقوق بين الأبناء والآباء عملية الاضطراب
الأسري، لما فيه من أخطار على صناعة الأجيال المستقبلية للأمة.
«المجتمع»
تواصلت مع الأكاديمي الأردني والمستشار التربوي والأسري د. علاء موسى، لتوجيه
الأسرة إلى أخطار وعوامل الاضطراب الأسري وكشف الخفي منه، وكيفية التعامل معه.
- كثيراً
ما يتحدث الخبراء عن الاستقرار الأسري، في المقابل يهمنا معرفة صفات الأسرة
المضطربة لتجنب خطورتها؟
 
- الأسرة
المضطربة ليست بالضرورة كما يتصور البعض أنها تلك التي تعاني من طلاق أو عنف ظاهر،
بل قد تكون أسرة تعيش تحت سقف واحد، يظهر عليها شكل الأسرة السويَّة، ولكنها تفتقر
إلى التواصل الفاعل، والاحترام المتبادل، والاحتواء الإيجابي، ويغيب عنها التقبل
والتفهم والتقدير.
ومن الصفات
السلوكية أيضاً للأسرة المضطربة، وغياب الحوار، حيث يسود الصمت أو الصراخ بديلًا
عن النقاش الهادئ، ويكون التحكم إما بسلطة مفرطة وبشكل قهري أو بغياب تام يشكل
فوضى تربوية.
- أرشدنا
القرآن إلى التباين بين عملية التربية والرعاية البيولوجية؛ (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24)، كيف نفرق بين التربية والرعاية لتنشئة
جيل مستقر سلوكياً؟
 
- الرعاية
البيولوجية تعني توفير الطعام، المأوى، والاحتياجات الجسدية، وهي مسؤولية فطرية
لأي أب أو أم. 
أما التربية فهي
عملية واعية مستمرة مخطط لها، تتضمن خماسية تربوية على الآباء والأمهات إدراكها
والعمل على التخطيط والتنفيذ والتقويم التربوي، من أهمها:
1- ترسيخ
القناعات الإيجابية وتغيير القناعات السلبية، وتشمل القناعات: تثبيت العقيدة، وغرس
القيم، وترسيخ المبادئ، وتنمية الطموحات.
2- دعم
الاهتمامات المتوافقة مع الدين والأعراف الصحيحة.
3- بناء وتطوير
المهارات، فالعالم اليوم يتجه نحو تنمية المهارات، وقد اهتم الإسلام منذ بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم بالمهارات ووظف أصحاب المهارات من الصحابة كل في مجاله
الذي يبدع فيه.
من الصفات السلوكية للأسرة المضطربة غياب
الحوار
4- العلاقات؛
فهي «بناء وحماية»، فقد تكون علاقة مع صديق أو قريب سبباً في دمار ما أسسه الأبوان
في المراحل الثلاثة الأولى؛ لذا من الواجب علينا تدريب الأبناء على حسن الوصل
والتنمية للعلاقات وطرق قطعها إن احتاج الأمر.
5- اختيار
النموذج الأمثل للقدوة المختارة لأبنائنا، فلا يكون قدوتهم تافهاً، أو ناجحاً في
المجال المالي فقط.
- من
وجهة نظرك، كيف نوازن بين المراقبة المشروعة والتدخل في جدولة أعمال أولادنا، حتى
لا نؤثر على سلوكهم؟
 
- المراقبة
المشروعة أن نكون على اطلاع على حياة أبنائنا دون أن نتحكم في تفاصيلها، ومع الحرص
على البناء نحرص على حماية هذا البناء التربوي خاصة من الكوارث التي تدخل إلى عقول
ونفوس أبنائنا عبر وسائل التواصل.
ومن المهم في
المراقبة والتدخل؛ الأسئلة الذكية: فبدلًا من «ماذا فعلت؟» نسأل: «كيف كانت تجربتك
اليوم؟»، فالتدخل الزائد قد يؤدي إلى التمرد أو الاعتمادية، بينما الإهمال يفتح
الباب للفوضى.
- يختزل
الناس البخل في التقتير وعدم الكرم، لكن هناك بخلاً مرضياً هو «بخل المشاعر»، كيف
يؤثر هذا على الاضطراب الأسري وبناء جيل غير سوي؟
 
- البخل ليس فقط
في المال، بل في المشاعر أيضًا، فحين لا يسمع الطفل كلمة «أحبك»، أو لا يشعر
بالاحتضان، فإنه ينشأ في فراغ عاطفي.
هذا النوع من
البخل يؤدي إلى ضعف الثقة بالنفس، والبحث عن الحب في أماكن أخرى قد تجر المصائب
للوالدين والأبناء.
إنقاذ الأجيال بالاحتواء لا بالتحكم..
وبالقدوة لا بالأوامر
كما يسبب
اضطرابات في العلاقات المستقبلية، فالأسرة التي لا تعبر عن مشاعرها تزرع جيلًا
يعاني من الجفاف العاطفي، ويفتقرون للذكاء العاطفي الذي يعتبر من أهم مهارات
التواصل في القرن الحالي.
- تُقابلنا
كثير من المصطلحات عن الأسر «المفككة، الانفصامية، المسيئة، المتداخلة»، نريد منك
أن تختصر علينا الطريق لمعرفة الأسرة الصالحة؟
 
- وسط فوضى
المصطلحات المثبطة والمشككة والسلبية، يمكن الاختصار بأن «الأسرة الصالحة»
المقصودة في شرعنا هي القائمة على المودة والرحمة، التي يقوم فيها كل من الزوجين
بأدواره ومهامه دون تزاحم بينها.
أسرة فيها
التربية على حقيقتها وليس الرعاية بشكلها الوالدي الظاهر، أسرة قيمها وقواعدها
واضحة، والتوقعات حاضرة لدى الجميع، والاحتواء بحب وتفهم وتقبل من أهم أسسها،
والمرونة في التعامل مع التغيرات والمشكلات، مهارة من مهاراتها.
- هل
يعني اضطراب السلوك لدى الأبناء أن الآباء كانوا فاشلين تربوياً؟ وما الذي يمكن
استدراكه في مثل هذه الحالات؟
 
- ليس بالضرورة،
ولا يوجد تلازم بين الأمرين، فالسلوك المضطرب قد يكون نتيجة عوامل خارجية (مدرسة،
أصدقاء، إعلام، وسائل التواصل..)، لكن الوعي الذاتي للوالدين مهم لاستدراك
الأخطاء، وطلب المساعدة التربوية أو النفسية ليس ضعفاً، بل قوة، والواجب فيه أن
نتحرى الثقات وأصحاب الخبرة الحقيقية.
- كيف
ترى زرع الأفكار والطموحات الكبيرة في سن مبكرة للأطفال؟ وهل هذا مؤشر مبكر
للاضطراب السلوكي في حالة الإخفاق؟
 
- زرع الطموحات
أمر إيجابي، وهو من باب غرس القناعات الإيجابية منذ الصغر، لكن بشروط، منها: 
- أن تكون
الطموحات واقعية ومناسبة لعمر الطفل.
- أن تكون مرنة
وقابلة للتعديل.
- ألا تكون
مشروطة بالحب أو القبول. 
لكن حين يُربط
الحب بالإنجاز، وعدم الحب للشخص بالإخفاق، فإن الإخفاق يتحول إلى أزمة هوية يجب
تجنبه.
- هل
الشعور بالذنب دائماً خاصة في حالات الإخفاق دليل على مشاعر سلبية واضطراب أسري
للشخص؟ 
 
- الشعور بالذنب
قد يكون صحياً إذا دفع الإنسان للتصحيح، والتصحيح يكون بالتوبة إن كان الذنب في حق
الله تعالى، وبالاعتذار وتصحيح السلوك إن كان مع الوالدين أو شخص آخر.
مراقبة حياة الأبناء مشروعة دون أن نتحكم
في تفاصيلها
لكنه يصبح
مرَضِيَّاً ومساهماً في الاضطراب الأسري إذا تحول إلى جلد للذات، أو أعاق اتخاذ
القرارات، أو إذا نشأ من بيئة أسرية تزرع اللوم بدلًا من الدعم.
- لا
شك أن الحياة الفارغة مرتع للمشاعر السلبية، كيف نملأ هذا الفراغ بوسائل ممكنة
ومتاحة غير معقدة؟
 
- الفراغ يولد
مشاعر سلبية، ويمكن ملؤه بآليات ووسائل بسيطة كلها تنمي أو تكشف الاهتمامات، وكلها
تطور المهارات وتبني العلاقات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: 
1- اكتشاف
وتنمية الهوايات كالقراءة، والرسم، والرياضة.
2- التفاعل في
الأنشطة الأسرية: كالمشي الجماعي أو الأنشطة العبادية كقراءة القرآن والصحبة في
الذهاب إلى المسجد. 
3- الانخراط في
العمل التطوعي: حيث يمنح الطفل شعوراً بالإنجاز والانتماء.
4- أيضاً
الروتين اليومي المنظم يخلق شعوراً بالأمان.
- ما
نصيحتك لكي ننقذ الأجيال من الاضطراب الأسري أو العائلة المسيئة؟
 
- ضرورة غرس
المودة والرحمة في البيوت لصناعة أجيال مستقرة أسرياً، وإنقاذ الأجيال بالاحتواء،
لا بالتحكم، وبالقدوة، لا بالأوامر. 
أيضاً التركيز
على قناعات أبنائكم اكتشافاً وتعزيزاً وتغييراً، فهي مفتاح ما بعدها، وعضدوا
الاهتمامات، ودربوا على المهارات، وابنوا العلاقات الصالحة المنتجة، واختيار
القدوات الحسنة.
من المهم عدم
النظر للأبناء كمثاليين، لكن اسعوا أن تكونوا أنتم القدوة والنموذج الأمثل لهم.
اقرأ
أيضاً:
«فات الميعاد».. مرآة الدراما والعنف الأسري