الأمل المشرق في ظلال البلاء
تمرّ بالإنسان
لحظات عصيبة يضيق فيها صدره، وتثقل همومه، وتتعاظم شدائده، حتى يكاد يرى أن الأفق
مسدود وأن النجاة بعيدة، وفي مثل هذه المواقف الحرجة، قد يتسرب اليأس إلى القلوب،
فيفتّ من عزيمة المرء ويضعف صبره، لكن الإسلام جاء ليغرس في النفوس بذور الأمل،
ويؤكد أن رحمة الله أوسع من الهموم، وأن الفرج يأتي غالبًا من حيث لا يحتسب العبد،
شرط أن يقترن حسن الظن بالله بالأخذ بالأسباب والسعي الجاد.
لقد واجه
الأنبياء والصالحون أشد الأزمات، لكنهم خرجوا منها مرفوعي الرأس بفضل يقينهم بالله،
وفي هذا درس عميق للمسلم اليوم: ألا يستسلم للظروف مهما اشتدت، وأن يجعل ثقته بربه
زادًا ومعينًا.
الأمل في القرآن الكريم.. وعد الله بالفرج
أكّد القرآن
مرارًا أن البلاء مهما طال لا بد أن يتبعه فرج، قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5} إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح)؛ فالآيتان تحملان أعظم رسالة؛ أن كل عسر يصاحبه يسر، بل
يسران، كما بيّن المفسرون، وهذا الوعد الإلهي يزرع الطمأنينة في قلب المؤمن وسط
العواصف.
وفي قصة يوسف
عليه السلام مثل واضح على أن الشدائد ليست إلا بوابة للتمكين، فقد ألقي في الجب،
ثم بيع عبدًا، ثم سُجن ظلمًا، ومع ذلك كانت النهاية أن أصبح عزيز مصر، وقال
مطمئنًا: (إِنَّهُ مَن
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 90).
وهكذا يتعلم
المسلم أن التمسك بالتقوى والصبر هو طريق الخروج من الضيق.
هدي النبي.. نموذج حسن الظن
السيرة النبوية
مليئة بمواقف الشدة التي غلب فيها الأمل اليأس، ففي غار ثور، عندما كان النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر، محاصرين من قريش، قال الصديق في قلق: لو نظر أحدهم تحت
قدميه لرآنا! فجاء رد النبي صلى الله عليه وسلم المليء باليقين: «ما ظنك باثنين
الله ثالثهما» (رواه البخاري، ومسلم).
تلك الكلمات
الخالدة لم تكن مجرد تهدئة، بل عقيدة راسخة بأن معية الله لا تُقهر.
كذلك قال صلى
الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «تفاءلوا بالخير تجدوه» (رواه الطبراني)؛ وهذا
توجيه نبوي صريح بأن الأمل وحسن الظن بالله ليسا مجرد شعور نفسي، بل عبادة عملية
تورث الطمأنينة وتجلب الخير.
حُسن الظن بالله.. عبادة قلبية عظيمة
من أعظم ما يعين
على تجاوز الأزمات أن يرسّخ المسلم في قلبه حُسن الظن بالله، كما ورد في الحديث
القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» (رواه مسلم)؛ فإذا أحسن العبد ظنه
بربه، ورجا رحمته، وتوقع الخير من فضله؛ كان الله عند ظنه، وفتح له من أبواب الفرج
ما لا يخطر على بال.
قال ابن القيم: أعظم
المحن التي يبتلى بها العبد سوء ظنه بربه، فإن حُسن الظن بالله هو حياة القلب
وروحه.
الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب
الإسلام لا يدعو
إلى الاتكال السلبي ولا إلى التعلق بالأماني، بل يوازن بين الاعتماد على الله والسعي الجاد، قال تعالى: (وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).
وقد جسّد النبي صلى
الله عليه وسلم هذا المعنى حين قال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما
يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (رواه الترمذي)؛ فالطير لم تبق في أعشاشها،
بل خرجت تسعى، وهذا هو الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله.
نماذج من صبر السلف وثباتهم
كثير من
الصالحين مرّوا بابتلاءات عظيمة، لكنهم تجاوزوها بحسن ظنهم بالله، فالإمام أحمد بن
حنبل سُجن وعُذّب في فتنة خلق القرآن، ومع ذلك كان يردد: «بيننا وبينكم يوم
الجنائز»، فكان تشييع جنازته مهيبًا، دليلاً على قبول الله له وصدق ظنه.
وابن تيمية الذي
قضى سنين في السجون، كان يقول: «ماذا يفعل أعدائي بي؟ جنتي وبستاني في صدري، إن
قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن سجنوني فحبسي خلوة».
هذه المواقف
تبعث في القلوب يقينًا أن البلاء مهما اشتد فهو مؤقت، وأن العاقبة دائمًا لأهل
الصبر.
كيف يعزز المسلم الأمل في قلبه؟
1- التمسك
بالقرآن: فهو كتاب الأمل والطمأنينة، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82).
2- الإكثار من
الدعاء: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى
نفسي طرفة عين».
3- الصحبة
الصالحة: مجالسة المتفائلين الصابرين تعين على الثبات.
4- التأمل في
نعم الله السابقة: استحضار كيف فرّج الله شدائد ماضية يزيد الثقة بفرجه في
المستقبل.
بين الأزمات المعاصرة ورصيد الإيمان
العالم اليوم يموج بالأزمات: صراعات، أوبئة، أزمات اقتصادية، فقدان وظائف.. وكلها ضغوط تهدد
الإنسان باليأس، لكن المؤمن يعرف أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وأن اليأس لا يليق بمن
يؤمن برب قادر رحيم.
في جائحة كورونا
مثلاً، حين شعر الناس بالذعر، تذكّر المسلمون قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل
الله داءً إلا أنزل له شفاء» (رواه البخاري).
إن أعظم ما
يحتاجه المسلم في أحلك الظروف هو إحياء الأمل في قلبه، وحُسن ظنه بربه، والتأكد أن
بعد كل ضيق فرجًا، وبعد كل عسر يسراً، هذه ليست مجرد شعارات، بل هي عقيدة راسخة
دعمتها النصوص القرآنية والنبوية، وأثبتتها تجارب الأنبياء والصالحين عبر التاريخ.
فإذا ضاقت بك
الدنيا، فتذكر أن الله أرحم بك من نفسك، وأن البلاء لا يدوم، وأنه سبحانه قال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: 53).
وبذلك يظل
المسلم في معركة الحياة ثابتًا مطمئنًا، لا ييأس مهما ادلهمّت الخطوب، بل يرى في
كل شدة بشارة لفرج قريب.