لم نجد له عزماً.. درس يتكرر!

التحذير الإلهي والاختبار الأول للبشرية
حالة متكررة بدأت بحالة أبينا آدم عليه السلام، حين أسكنه الله الجنة؛ (وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ
شِئْتُمَا) (البقرة: 35)، وتلقى تحذيراً واضحاً وشديداً من الله تعالى ألا
يقرب هو وزوجه تلك الشجرة؛ (وَلاَ
تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) (البقرة: 35)؛ هذه الشجرة
كانت الاختبار لحقيقة امتثاله لأوامر ربه، وصبره على الالتزام بها، وعدم مخالفتها،
والوقوف الصارم عند حدودها.
وقد رافق التحذير تنبيه لا بل تحذير آخر
من الله تعالى له من الشيطان الرجيم؛ (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ) (طه: 117)، المحذر منه إبليس الذي طرد من رحمة الله، وحلت عليه اللعنة ليوم الدين، بسبب غروره وتكبره الذي منعه
من الامتثال لأمر الله بالسجود لآدم، تكريماً له؛ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) (الكهف: 50)، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34).
لكن المصيبة كانت أن سيدنا آدم عليه
السلام وقع في المحذور ونجح إبليس في إغوائه، رغم ما تلقاه من تحذيرات وتوجيهات من
ربه؛ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ
مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف: 20)، (فَدَلَّىٰهُمَا
بِغُرُورٖۚ
فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ
عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ) (الأعراف: 22)، (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ
عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (البقرة: 36).
ويسدل الله تعالى الستار على المشهد
الأول في حياة أبينا آدم عليه السلام؛ مشهد المعصية، مشهد ظلم النفس، مشهد الوقوع
في حبائل الشيطان، هذا المشهد الرهيب، الذي ختم باعتراف صريح وواضح من أبينا آدم
عليه السلام أنه وزوجه حواء قد ظلما أنفسهما؛ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)،
فلم يطلب من ربه سبحانه إلا المغفرة والرحمة، لم يطلب منه أن يسامحه هذه المرة،
ويعطيه فرصة ثانية، فالأمر أشد من ذلك، ولا يستوعب شيئاً من هذا القبيل، ولا
يستوعب إلا أن تعترف فقط، وتنتظر الحكم من ربك جلّت قدرته.
وهنا يسدل الله تعالى الستار على هذا
المشهد بأمرين؛ الأول: بعتاب خفيف لطيف فقال لهما منادياً: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأعراف: 22).
الثاني: بحقيقة ثقيلة، ويا لها من حقيقة،
الحقيقة التي تبين سبب الرسوب في اختبار الالتزام، والثبات، والصبر حتى الممات،
فقال: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 115)،
غياب العزم، لم نجد له عزماً، وعزيمة يواجه فيها شهواته، ويهزم فيها وساس نفسه،
وينتصر فيها على إغواء شيطانه، ويبرهن فيها على حسن التزامه.
غياب العزم لا يعني غياب الإيمان، بقدر
ما يؤكد ضعفه، غياب العزم لا يعني الانكسار بقدر ما يعني الوقوع في أسر الغفلة،
غياب العزيمة لا يعني الهزيمة بقدر ما يعني الانحراف عن المسير الصحيح، غياب
العزيمة يعني أن تستسلم لهواجس نفسك، وترضخ لوساوس شيطانك، الذي يمنّيك ويخوّفك
ويحذرك ويوسوس لك، ويجتهد في إعذارك والبحث لك عن الأعذار، فتقع في فخها، فتظلم
نفسك ومن استرعيت أمانة رعايتهم.
لم نجد له عزماً، في مواجهة الشهوات، لم
نجد له عزماً في مقارعة الملذات، لم نجد له عزماً في المقاومة والثبات، لم نجد له
عزماً في المواجهة والتحديات، فكانت النتيجة الحظر والإبعاد، حظر عليه الجنة،
وأبعده إلى الأرض.. ولو وجد له عزماً، ولو امتلك ناصية العزم، وكان من أهل
العزيمة، وانتصر على شهواته وملذاته، وكان أقوى من وسوسات الشيطان، لما حظر ولما
أبعد.
العزم أساس الثبات والقوة
لكن الرسالة التي يريد الله تعالى أن تصل
إلينا، نحن أبناء آدم، وخلفاء الله في أرضه، وورثة أنبيائه؛ أن سلاح ثباتنا،
وانتصارنا، وقوتنا، هو عزيمتنا، عزيمتنا في الاستقامة على منهج ربنا، عزيمتنا في
تمسكنا في أخلاقنا، عزيمتنا في ضبط سلوكنا وتصرفاتنا، وأي فساد يتسرب لأي من هذا
كله، فساد في أخلاقنا، في سلوكنا، في تصرفاتنا، فمعنى هذا بالتأكيد ضعف في
عزيمتنا، أو قل: غياب عزمنا.
وحين يغيب العزم يكون الطرد والحظر
والإبعاد، من ميادين المنافسة، ميادين العمل، ميادين الإصلاح، في مثل هذه الحالة،
لا يحق لك أن تتصدر، لا يحق لك أن تكون قدوة، لا يحق لك أن تكون رافع اللواء وحامل
الراية، ارجع إلى أرض نفسك، احرثها ونقها واسقها ثم ازرعها تقوى وأخلاقاً
والتزاماً، حتى يشتد فيها حبل العزم، ويرتفع فيها بنيان العزيمة، فبعد ذلك حيهلا
بك، سنبارك ذريتك، ويكون منها وفيها ذوو العزم والعزيمة، الذين ستستقيم بهم
الحياة، ويعلو شأن الإصلاح والصلاح.
نعم، لم نجد له عزماً، حين خلط عملاً
صالحاً بآخر سيئ، حين أراد الخلود بما نُهي عنه، حين أراد القيادة والريادة بغير
ما شرعنا وبيَّنَّا، حين استسهل الخوض في أعراض إخوانه، حين ارتدى زي المصلحة
العامة، مصلحة الدعوة المباركة، كي يغطي على أهواء نفسه، وشهواتها، حين اتبع هواه
تحت ستار الغيرة على دين الله، ونسي أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي
الصدور، ونسي أن الله لا يصلح عمل المفسدين، ونسي أن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً،
في الزكوات والأدوات وفي الجهود والمعاملات، وفي الكلمات وحتى الإشارات.
نعم، لم نجد له عزماً، على مقارعة
الخطوب، ولا المحافظة على سلامة القلوب، وخرق الصفوف بكثير من الجيوب.
نعم، لم نجد له عزماً، على توحيد الجهود،
وتمتين الصفوف، وجمع الكلمة.
نعم، لم نجد له عزماً، على إقالة
العثرات، والتجاوز عن الهفوات، وقبول الاعتذارات.
نعم، لم نجد له عزماً، على المضاء
والقيام بواجبات الأمانة، التي تصدر لها، وسعى لطلبها.
نعم، لم نجد له عزماً، على المحافظة على
العهد، بقوة وأمانة.
كل هذا يستدعي إبعادك، ومعاقبتك، وحظرك،
حتى ترجع إلى رشدك، وتختار سبل هدايتك، وتجدد إيمانك، وتلتزم بحدودك.
فإذا كانت عقوبة آدم عليه السلام الإبعاد
من الجنة، فإن عقوبة من فقد عزمه وعزيمته أن يكله الله لنفسه الضعيفة، وجهوده
المتواضعة، واجتهاداته الشخصية.. ومن وكله لنفسه، حرمه توفيقه، ومن حرم توفيق ربه
ضاع جهده، وفسد سعيه، وظهرت عيوبه.