الأوقاف الكويتية.. من التبرع الخيري إلى التنمية المستدامة

تُعد تجربة
الأوقاف في دولة الكويت نموذجًا رائدًا في تحويل العمل الخيري من مجرد مساعدة
عاجلة إلى أداة فاعلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فلم تعد الأوقاف مجرد
تبرعات ومبادرات فردية، بل تحولت إلى مؤسسة متكاملة تُدير أموالها وتستثمرها
بمهنية عالية لضمان استدامة ريعها، وهو ما جسدته الأمانة العامة للأوقاف منذ
تأسيسها في عام 1993م.
التحول النوعي.. الأمانة العامة للأوقاف
على الرغم من أن
العمل المؤسسي الوقفي في الكويت بدأ متأخرًا، واعتمد في بداياته على الإدارةالأهلية، فإن الحاجة لتنظيم هذا القطاع أدت إلى تطور تدريجي في الجهاز الحكومي،
ففي عام 1921م تم إنشاء دائرة الأوقاف، كأول كيان مؤسسي مركزي يُعنى بوضع الضوابط
والأنظمة لتطوير الوقف، واستمر هذا التطوير إلى أن استقلت الكويت، وتحولت دائرة
الأوقاف إلى وزارة في يناير عام 1962م، ثم أضيفت إليها الشؤون الإسلامية في أكتوبر
1965م لتصبح وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
التحول الأبرز
والأكثر أهمية كان في عام 1993م، حيث تم إنشاء الأمانة العامة للأوقاف بموجب مرسوم
أميري، لم تكن الأمانة العامة للأوقاف مجرد إضافة إدارية، بل كانت نقلة نوعية من
حيث الشكل المؤسسي، وفلسفة العمل الوقفي، عملت الأمانة على تفعيل الوقف كأداة
تنموية، وذلك من خلال:
- الاستثمار
الوقفي: بدلاً من صرف أصول الوقف مباشرة، يتم استثمارها في مشاريع مدروسة مثل
العقارات والأسهم والمشروعات التجارية، هذا النهج يضمن نمو الوقف وتعدد مصادر
دخله، ما يزيد من قدرته على تمويل المزيد من المشاريع الخيرية.
- التنوع في
المصارف: لم يقتصر دور الأمانة على دعم المساجد والمدارس فقط، بل توسع ليشمل
مجالات حيوية مثل البحث العلمي، الرعاية الصحية، التنمية المجتمعية، ودعم المشاريع
الشبابية.
الصناديق الوقفية.. آليات مرنة للتبرع
لإتاحة الفرصة
للمواطنين والمقيمين للمشاركة في العمل الخيري بفعالية ومرونة، ابتكرت الأمانة
العامة للأوقاف نظام الصناديق الوقفية، وهي قالب تنظيمي استحدث من داخل الأمانة
لتمكنها من تحقيق رؤيتها الإستراتيجية للنهوض بالوقف وتطوير أوضاعه، وقد أنشأت
الكويت نحو 11 صندوقًا وقفيًا تنتشر في أرجائها، بهدف توسيع ممارسة العمل الوقفي،
من خلال تعاون الجهات الشعبية مع المؤسسات الرسمية، في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، التي
تتمثل في إحياء سُنة الوقف، عن طريق طرح مشاريع تنموية اجتماعية، والدعوة إلى
الوقف عليها، وإنفاق ريع كل صندوق على غرضه، باعتبار أن هذه الصناديق أوعية
استثمارية متخصصة تُخصص أموالها لتحقيق هدف خيري محدد، وذلك من خلال برامج عمل
تراعي تحقيق أكبر عائد تنموي، ورؤية متكاملة تراعي احتياجات المجتمع وأولوياته(1)،
من أبرز هذه الصناديق:
- الصندوق
الوقفي للتنمية الصحية: يُعد هذا الصندوق أداة أساسية لدعم الجهود والمؤسسات التي
تعمل على رعاية الصحة العامة، حيث يمول بناء المستشفيات، وتوفير الأجهزة الطبية،
ودعم الأبحاث الصحية، ولتحقيق هذه الأهداف خصصت الأمانة العامة أصولاً وقفية
قيمتها حوالي 5 ملايين دينار كويتي للصرف من ريعها على أنشطة الصندوق المختلفة.
ويهدف الصندوق
إلى نشر مفاهيم التنمية الصحية والوعي الصحي بين المواطنين، ودعم المؤسسات الصحية
والارتقاء بمستواها، وتطوير الكوادر الطبية الوطنية، إضافة الاستفادة من الخبرات
الطبية الأجنبية المتميزة(2)، وقد ساهم هذا الصندوق بشكل كبير في تعزيز
البنية التحتية الصحية في الكويت.
- الصندوق
الوقفي للثقافة والفكر: ويهتم بنشر الثقافة الجادة وتنمية الفكر الإبداعي، وقد
عيّنت الأمانة العامة أصولاً بقيمة مليون دينار كويتي للصرف من ريعها على أنشطة
الصندوق، إيمانًا بأهمية الثقافة والفكر في التراث الإسلامي والتنمية المجتمعية، وتركز
جهود الصندوق عبر وسائل الإعلام، وتنظيم الندوات، وتشجيع المواهب، وتنمية ثقافة
الطفل.
- الصندوق
الوقفي للتنمية العلمية: يعمل الصندوق على دعم البحث العلمي والتعليم، من خلال نشر
الروح العلمية ورعاية المواهب ودعم الإنجازات، ويُستخدم ريع هذا الصندوق في تمويل
الأبحاث والدراسات العلمية المبتكرة التي تخدم التنمية الوطنية، وتقديم منح للطلبة
الموهوبين وتوفير سبل تطوير قدراتهم، والتنسيق والتعاون مع المؤسسات العلمية داخل
الكويت وخارجها.
- الصندوق
الوقفي لرعاية المعاقين والفئات الخاصة: ويركز جهوده في تأهيل ذوي الاحتياجات
الخاصة والتخفيف من معاناتهم والعمل على اندماجهم في المجتمع، وقد خصصت الأمانة
العامة أصولاً وقفية قيمتها 5 ملايين دينار كويتي، للصرف من ريعها على أنشطة
الصندوق المختلفة.
- الصندوق
الوقفي لرعاية الأسرة: أنشئ هذا الصندوق للعمل على دعم الأسرة وتعزيز تماسكها من
خلال المساندة الاجتماعية الخيرية، ويهدف إلى توفير الرعاية المناسبة للأسرة،
وتهيئة المناخ المناسب لاستقرارها، إضافة إلى الاهتمام بمعالجة المشكلات
الاجتماعية، كما يدعم الصندوق إلى إحياء سُنة الوقف العيني والتبرع النقدي وحث
المتطوعين على دعم الصندوق بصفة خاصة.
- الصندوق
الوقفي للمحافظة على البيئة: تم إنشاء هذا الصندوق عام 1995م لدعم جهود التنمية
المستدامة، والعمل على إيجاد أفضل السبل لحماية البيئة وتنميتها والمحافظة عليها
لتكون سليمة وصحية للأجيال القادمة، وذلك بتنسيق سياسات وبرامج لمساندة الأجهزة
الحكومية والأهلية العاملة في مجال مكافحة التلوث وإعادة تأهيل البيئة، ويركز
الصندوق على تمويل مشاريع المحافظة على البيئة، وتدريب الكوادر الوطنية على العمل
البيئي، وتنفيذ المشاريع المرتبطة بمكافحة التلوث، إضافة إلى نشر الوعي البيئي بين
أفراد المجتمع حفاظًا على البيئة الكويتية نقية ونظيفة(3).
تقييم التجربة الوقفية بالكويت
رغم القصر
النسبي في عمر تجربة الصناديق الوقفية في الكويت، فإنه يمكن بيان بعض المؤشرات
التي تفيد في الحكم على نجاح تجربتها، ومنها(4):
- زيادة عدد
الواقفين من 408 قبل إنشاء الأمانة إلى 538 بعد إنشائها، بزيادة 130 واقفًا جديدًا؛
وهو ما يعنى أن ما حققته الأمانة يساوى 24.2%؛ أي بمعدل زيادة قدره 12.5 ضعفًا
سنويًا بعد إنشاء الأمانة مقارنةً بالمعدل السنوي قبل إنشائها.
- بلغ حجم
الأوقاف المنشأة بعد تأسيس الأمانة بـ3 سنوات ما يزيد على 4.2 مليون دينار كويتي؛
أي ما يوازى حوالي 18 مرة حجم الأوقاف التي أنشئت عام 1993م، وهي سنة الأساس
للأمانة.
- ارتفعت القيمة
الإجمالية للموقوفات من 98 مليون دينار كويتي قبل إنشاء الأمانة إلى 131.7 مليون
دينار بعد إنشائها.
- بلغ نمو صافي
إيرادات الاستثمار الوقفي بعد إنشاء الأمانة حوالي 10.1 ملايين دينار كويتي، وهو
ما يوازي نحو 204% من حجم الإيرادات قبل إنشاء الأمانة، كما ارتفع نمو الإنفاق على
أنشطة ومشاريع العمل التنموي الوقفي ما يزيد على 4 ملايين دينار كويتي بنسبة 594%
من حجم الإنفاق قبل إنشاء الأمانة.
- وقد أحدث
التطوير المؤسسي نقلة نوعية في سياسات استثمار أموال الوقف، وفي مجالات صرف ريعها،
وفي أدوات توزيعها سواء في صورة الصناديق أو المشاريع الوقفية الكويتية.
نموذج عالمي للوقف
إن تجربة الكويت
في مجال الأوقاف تُقدم درسًا مهمًا للعالم أجمع، فهي تُظهر أن الوقف، إذا ما أُدير
بمهنية وشفافية وحوكمة، يمكن أن يتحول إلى رافعة اقتصادية واجتماعية قادرة على
تحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل، هذا النجاح لم يكن ممكنًا لولا الرؤية
المستقبلية التي حولت الوقف من مفهوم تقليدي إلى مؤسسة اقتصادية حديثة تساهم
بفاعلية في بناء المجتمع.
___________________
(1) فداء منصور
أبو المعاطي الجوهري، (2020)، اقتصاديات الدعم بين الاقتصاد الوضعي والإسلامي،
المصرية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى.
(2) داهي الفضلي،
(1998)، تجربة النهوض بالدور التنموي للوقف في دولة الكويت، الأمانة العامة
للأوقاف، الكويت، 1418هـ.
(3) محمد
الزحيلي، (2008)، الصناديق الوقفية المعاصرة، جمعية الإمارات للمحامين
والقانونيين.
(4) مصطفى محمود
محمد عبدالعال، (2005)، دور الوقف في تفعيل التكامل في الوطن العربي، مجلة النهضة،
مصر، مجلد 6، عدد 3.