الإحسان في المعاملات وفقه الأخلاق
                    الإحسان ذروة
العبادات في الإسلام، وهو أعلى درجات العبودية لله عز وجل، وهو القيمة الأخلاقية
التي تحيل العمل من مجرد عادة يومية، لعبادة يؤجر المرء عليها، ولا يقتصر عن
عبادات شرعها الله لخلقه، بل يمتد ليشمل كافة العلاقات الإنسانية والمعاملات
كالبيع والشراء والعمل والجوار والقيادة؛ يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)
(النحل: 90). 
وقال صلى الله
عليه وسلم في تعريف الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
(رواه مسلم)، ويقول ابن القيم: «الإحسان جامعٌ لمقامات الدين كلّها؛ فهو روح
العدل، ولبّ الأخلاق»(1). 
مفهوم الإحسان
الإحسان لغة: الإحسان
ضد الإساءة، وهو فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير، وهو مصدر أحسن، أي: جاء بفعل حسن،
ويقال على معنيين؛ أحدهما: متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا: إذا حسنته وكملته،
وثانيهما: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى كذا، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به(2).
والإحسان
اصطلاحاً عند الكفوي: هو فعل ما ينفع غيره بحيث يصير الغير حسناً به، كإطعام
الجائع، أو يصير الفاعل به حسناً بنفسه(3).
وعند السعدي: هو
بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون(4)، وعند القرطبي: هو
فعل الجميل اختياراً، لا وجوباً، وهو باب واسع يشمل القول والفعل والنية(5).
وإجمالاً يمكن
تعريف الإحسان بأنه ترقية الأخلاق والمعاملات، هو الصورة المثلى لكل ما هو جميل
ومشروع، فالمسلم لا يكتفي بالإنصاف، بل يسعى للجميل والتسامح.
الإحسان في البيع والشراء
وقلب الإحسان
يتمثل في المعاملات مع الناس، وأهمها البيع والشراء، فيقول النبي صلى الله عليه
وسلم: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى» (أخرجه
البخاري)، ويقول الغزالي: الإحسان في البيع بألا يغالي في الثمن، وأن يرفق
بالمشتري، ويقبل العذر عند التعثر(6).
فالإحسان في
معاملة البيع والشراء ليس مجرد سلوك طيب للفرد المسلم، وإنما هو ممارسة عبادة
الإحسان كما يحبه الله ورسوله.
الإحسان في التعامل مع العامل والفقير
والإحسان إلى
الفقير والمحتاج والعمال البسطاء ليس خياراً، وإنما هو تكليف رباني للمسلم، يقول
تعالى: (وأَحْسِنْ كَمَا
أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص: 77)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
الله كتب الإحسان على كل شيء» (رواه مسلم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كتوجيه
للإحسان نحو العمال: «أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عمله» (أخرجه ابن ماجة)، يقول
المناوي: الإحسان إلى العامل عنوان الإيمان، وتأخير حقه ظلم ينافي الرحمة التي أمر
بها الشرع(7).
الإحسان في القضاء والسلطة
الإحسان في
الحكم يعني الرحمة والعدل والرفق بالمحكومين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم
من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق
بهم فارفق به» (رواه مسلم)، يقول ابن تيمية: الإحسان في الولاية أن يُقدّم مصلحة
الناس على هوى النفس، وأن يكون العدل مقرونًا بالرحمة(8)، ويضيف
الشاطبي في الموافقات: العدل هو الإطار والإحسان هو الروح، فإذا اجتمعا استقامت
الدولة وصلحت الأمة.
الإحسان في العلاقات الاجتماعية
والإحسان إذا
زين الحياة الاجتماعية تحول المجتمع لواحة من الحب والأمان والترابط والتكافل،
ولنا أن نتخيل أن كل فرد من أفراد الأسرة يحسن في تعامله تجاه الآخر، وكذلك كل فرد
من أفراد المجتمع، كيف سيكون شكل تلك المجتمعات؟! 
والله عز وجل
يأمر عباده بالإحسان في القول في كل وقت، فيقول تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83)، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»
(رواه البخاري)، يقول ابن حجر في فتح الباري: الوصية بالجار من تمام الإحسان،
لأنها تقوم على المشاركة الوجدانية لا على المصلحة، ويقول د. محمد عمارة: الإحسان
قيمة اجتماعية تصنع الثقة، وتعيد للمجتمع توازنه الأخلاقي حين تغيب الماديات(9).
الإحسان كقيمة اقتصادية وإنسانية
في الاقتصاد
الإسلامي، الإحسان يعني الرحمة في الربح والإنصاف في الكسب، يقول القرضاوي: الإحسان
في الاقتصاد هو أن يتحول الربح إلى وسيلة لإعمار الأرض لا لاستغلال الضعفاء(10).
ويؤكد مالك بن
نبي في شروط النهضة أن الإحسان الاجتماعي الوقود الأخلاقي لحضارة الإسلام، إذ يضيف
للعمل الاجتماعي بعداً إنسانياً وأخلاقياً، فالإحسان لا ينافي التنافس، بل يجعله
إنسانياً مبنياً على التعاون والرحمة.
فقه الإحسان في العصر الرقمي
وفي العصر
الرقمي يتبلور معنى الإحسان في عدة محاور:
1- في العمل:
إتقانه بأفضل صورة ممكنة، والحرص على العدل في التعاملات الرقمية، مثل إعطاء
الأحقية لكل ذي حق، والبعد عن الظلم وعدم التحيز، ثم ضبط الأمور بدقة، والحفاظ على
وقت العمل بالانضباط في الحضور.
2- في التعامل
مع الآخرين: تكون صورة الإحسان في التعامل مع الآخرين من خلال التعامل الأخلاقي؛
أي بناء علاقات رقمية قائمة على الاحترام والتقدير المتبادل، والالتزام بالأمانة
وتجنب الغش، وأيضاً تقديم النصح عبر الوسائط الإلكترونية والرقمية والتأكيد على مسؤولية
المحتوى المنشور وتحري الصدق والدقة فيه، والابتعاد عن الأعراض من قريب أو من
بعيد، مع الحفاظ على خصوصية الآخرين في هذا العالم المفتوح، مع التخلق بخلق الرحمة
بتقديم العون والدعم للأشخاص عبر المنصات الرقمية، خاصة في أوقات الأزمات.
3- في العبادات:
يجب أن تتسم بالحضور القلبي واستحضار النية وتجديدها، واستحضار معية الله ورقابته
في السر والعلن، كما يجب أن يكون استخدام التكنولوجيا في نشر الخير والمعرفة
الدينية، بدلاً من استخدامها في الشر ونشر المفاسد، وتجنب المشاركة في نشر
الأكاذيب والشائعات والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها.
إن الإحسان هو
الوجه الإنساني للمعاملات في الإسلام، وهو ما يجعل الاقتصاد والأخلاق متكاملين لا
متضادين، فحيث يوجد الإحسان، يوجد الاطمئنان والجمال والقيم والأخلاق والسكينة،
وتزدهر العلاقات بالرحمة والصدق، يقول تعالى: (هلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ) (الرحمن:
60)، فالإحسان دائرة من الكمال الإنساني المتبادل، تبدأ من القلب المؤمن
المطمئن لجنب الله، لتعود إليه سبحانه حيث الرقابة والمحاسبة الذاتية للنفس يوماً
بيوم، لتجعل كل معاملة في الإسلام عملاً عبادياً وإنسانياً راقياً.
___________________
(1) مدارج
السالكين لابن القيم، ج 2، ص 10.
(2) يُنظَر: تهذيب
اللغة للأزهري (4/ 182)، الفروق اللغوية للعسكري، ص 193، لسان العرب لابن منظور
(13/ 117)، التعريفات للجرجاني، ص 12، تاج العروس للزبيدي (34/ 418).
(3) الكليات، ص
53.
(4) بهجة قلوب
الأبرار، ص 142.
(5) الجامع
لأحكام القرآن، ج 10، ص 250.
(6) إحياء علوم
الدين، ج 3.
(7) فيض القدير،
ج 2، ص 412.
(8) السياسة
الشرعية لابن تيمية، ص 45.
(9) القيم
الحضارية في الإسلام، ص 104.
(10) فقه
المعاملات المعاصرة، ص 136.