الانتخابات القبرصية تدق ناقوس الخطر لتركيا

د. سعيد الحاج

23 أكتوبر 2025

44

خسر الرئيس القبرصي المنتهية ولايته أرسين تتار الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح منافسه الأبرز رئيس الحزب الشعبي التركي المعارض طوفان أرهورمان، وبفارق تصويتي كبير حيث حصل الأخير وفق النتائج الأولية غير الرسمية على نسبة 62.7% من أصوات الناخبين مقابل 35.8% للأول.

هواجس عديدة

أثارت هذه النتائج هواجسَ عديدة في أنقرة بخصوص العلاقات مع قبرص ومسار حل القضية القبرصية، بالنظر إلى أن الرئيس السابق تتار كان مقرباً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويحمل نفس الرؤية مع تركيا بخصوص حل القضية القبرصية؛ أي حل الدولتين، بينما يُعرف عن الرئيس المنتخب أرهورمان أنه مع مسار المفاوضات بغرض الوصول لحل فيدرالي للجزيرة.

ينبع هذا القلق من الأهمية الكبيرة التي توليها تركيا لقبرص، التي يُطلق عليها اسم «الوطن الابن» أو «الوطن الأصغر» للدلالة على الأهمية والقرب وكذلك على الروابط العرقية والقومية والدينية والثقافية والسياسية.

أهم الملفات

فقد بقيت القضية القبرصية أهم ملفات السياسة الخارجية التركية لعقود طويلة، وهي الحالة الوحيدة للتدخل العسكري التركي خارج الحدود (بما يتناقض مع مبدأ «سلام في الداخل، سلام في العالم» التي خطّها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك) حتى عام 2016م، حين تدخلت تركيا في سورية عسكرياً.

كانت الجزيرة تحكم بنظام محاصصة تشاركي بين القبارصة الأتراك في الشمال والقبارصة اليونانيين في الجنوب، مع توترات تتجدد كل حين بسبب رواسب سابقة وحالة التنافس والخصومة الشديدة، فضلاً عن التباينات الدينية والإثنية والثقافية، بعد انقلاب قاده قوميون يونانيون في الجزيرة وتخوفات من تجاوزات بحق القبارصة الأتراك، تدخلت تركيا عسكرياً في الجزيرة عام 1974م، مغامرة بعلاقاتها الغربية، حيث وقعت عليها عقوبات أمريكية امتدت لسنوات.

تقسيم الجزيرة

منذ ذلك الوقت والجزيرة مقسمة فعلياً بين الشمال التركي الذي يشمل بشكل تقريبي ثلث الجزيرة والجنوب اليوناني الذي يشمل بشكل تقريبي ثلثيها، مع مساع إقليمية ودولية لحل المسألة وإعادة توحيدها.. عام 2004م، طرح الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان خطة لتوحيد الجزيرة مع وعد تحفيزي بإدخالها الاتحاد الأوروبي، وجرى استفتاء على ذلك فأيدته غالبية القبارصة الأتراك (زهاء 65%)، وعارضته أغلبية ساحقة من القبارصة اليونانيين (76%)، ورغم ذلك قُبلت قبرص الجنوبية عضواً في الاتحاد الأوروبي باسم «قبرص» وبقي وضع الشمال على ما هو عليه.

مسار التفاوض

لاحقاً، جرت محاولات لإعادة مسار التفاوض بين شقّي الجزيرة وبرعاية الدول الضامنة الثلاثة تركيا واليونان وبريطانيا، دون أي اختراق ملموس، ثم توقفت المفاوضات عام 2017م، تأثراً بالتوتر المستجد بين أنقرة وأثينا بخصوص غاز شرق المتوسط وترسيم الحدود البحرية بين مختلف الدول المطلة عليه.

ساهم جمود المفاوضات، والتوتر المتكرر بين تركيا واليونان، وظهور الثروات في شرق المتوسط، وغيرها من العوامل، وبالتالي دخول حل توحيد الجزيرة في حلقة مفرغة ومسار مسدود بلا أفق، ساهم كل ذلك بتغير رؤية أنقرة لمسار الحل في الجزيرة، بالدعوة إلى تقسيم الجزيرة لدولتين تركية في الشمال ويونانية في الجنوب، وهو ما ترفضه قبرص (اليونانية) واليونان.

تأييد رؤية تركيا

في السنوات الأخيرة، أيّد الرئيس السابق أرسين تتار رؤية تركيا ونادى بتقسيم الجزيرة وحل الدولتين، ولذلك أثارت خسارته بفارق كبير أمام المعارض أرهورمان المعروف بتأييده لمسار التفاوض والحل الفيدرالي هواجس أنقرة وقلقها بشأن المستقبل.

التصريحات الرسمية التركية بخصوص الانتخابات عكست مدى أهمية الجزيرة وقضيتها بالنسبة لأنقرة، وأتى التصريح الأكثر حدّةً والأعلى سقفاً –كالعادة– من زعيم التيار القومي ورئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، الذي حذّر من خسارة قبرص، داعياً برلمانها للانعقاد ورفض نتائج الانتخابات الأخيرة بدعوى تدني نسبة المشاركة فيها (أقل من 50%)، والدعوة للانضمام للجمهورية التركية لتكون «المحافظة رقم 82» بها.

تصريح بهجلي، حليف الرئيس التركي، لا يعكس بالضرورة توجهاً رسمياً لدى الحكومة في أنقرة، إذ أكدت تصريحات أردوغان ونائبه جودت يلماظ، ووزير خارجيته هاكان فيدان، متانة العلاقات مع قبرص واستمرار تركيا في دعمها لها بشتى السبل، والأهم من كل ذلك مديح نضج الشعب القبرصي التركي الذي عكسه في الانتخابات.

قلق كبير

بيد أن تصريح الزعيم القومي يعبر عن مستوى القلق في أنقرة من المسار المستقبلي للقضية القبرصية بالنظر لتوجه الرئيس الجديد نحو الحل الفيدرالي ونسبة التأييد التي حصل عليها في التصويت وخلفيته السياسية، ولذلك، فقد كان لافتاً أن زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال لم يكتف بتهنئة الرئيس الجديد، وإنما تعمّد تسميته بـ«صديقي» وحزبه بـ«الحزب الشقيق» للشعب الجمهوري، غامزاً من قناة أردوغان الذي اتهمه تلميحاً بمحاولة التدخل في الانتخابات القبرصية لدعم «مرشحه» الخاسر.

منظومة القوة التركية

«خسارة قبرص» بالمعنى الذي أحال إليه بهجلي أمر لا تملك أنقرة رفاهية تحمله، فالقضية القبرصية -إضافة لأهميتها القومية- ركن رئيس في منظومة القوة التركية في إطار التنافس (والخصومة) مع اليونان جغرافياً وجيوسياسياً وما يتعلق بأمن الطاقة فضلاً عن الاصطفافات الإقليمية التي باتت اليوم أقل حدّةً وخطراً لكنها كانت سعت سابقاً لعزل أنقرة وحصارها وحرمانها من حقوقها في الغاز الطبيعي بشكل أساسي بعدة أدوات كان أهمها منتدى غاز شرق المتوسط.

والسؤال الآن: ما أثر نتائج الانتخابات الرئاسية في قبرص على مسار القضية؟ بمعنى آخر؛ هل يكفي فوز أرهورمان وتأييده للحل الفيدرالي لتحقيق ذلك، على عكس رؤية أنقرة؟

يقف أمام هذا المسار عائقان رئيسان؛ الأول: عدم رغبة الطرف الآخر، والمقصود به قبرص اليونانية، بهذا الخيار، وقد سبقت الإشارة إلى رفض القبارصة اليونانيين مبدأ الوحدة في استفتاء 2004م، بنسبة ساحقة (76%)، ذلك أن قبول قبرص (اليونانية) في الاتحاد الأوروبي، والدعم الغربي المقدم لها ولليونان، تجعلها زاهدة في توحيد الجزيرة وضم القبارصة الأتراك لها.

الوطن الأم

والعقبة الثانية هي صعوبة تخطي موقف تركيا، فهي ليست مجرد دولة جارة أو داعمة، وإنما «الوطن الأم»، كما يفضّل الأتراك تسميتها، بكل المعاني التي تحملها الكلمة من اهتمام ورعاية وكذلك هوية وانتماء وحساب المصلحة، فتركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعترف بجمهورية شمال قبرص التركية، وهي شريان الحياة شبه الوحيد لها اقتصادياً وتجارياً وفي مختلف المجالات، وهي إلى ذلك إحدى الدول الضامنة في الجزيرة؛ ما يعني أن تخطيها بالكامل أو بلورة اتفاق رغماً عنها أمر متعذر إلى حد بعيد.

في المقابل، لا شك أن اليونان وبعض الأطراف الأخرى سوف تتلقف فوز أرهورمان باعتباره خسارة لأردوغان، وبالتالي ستحاول الاستثمار في مسار للحوار الأولي، وربما للتفاوض، لكن النظرة الفوقية لقبرص واليونان من مركز قوة لقبرص الشمالية قد تعني أن ما سيُعرض على الأخيرة قد لا يمكن قبوله، وهو ما يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً بخصوص انخفاض سقف التوقعات.

أرضية للحوار

وبالتالي، فالتوقعات الواقعية تسير باتجاه عدم انتظار حل كامل للقضية القبرصية قريباً، لكن ذلك لا ينفي أن هناك اليوم أرضية مناسبة للحوار وربما المفاوضات، وهو مسار لن تعارضه أنقرة بالكلية، لا سيما وأنها ستكون على الطاولة كذلك كطرف ضامن، فضلاً عن ثقتها بأوراق قوتها التي لن تسمح لقبرص –ولو أرادت– أن تذهب بعيداً عنها، وهو ما عبّر عنه الرئيس المنتخب بشكل واضح حين أكد أن بلاده في عهده سوف تنسق بشكل وثيق سياستها الخارجية مع تركيا.

يدفع كل ذلك أنقرة لوضع الملف القبرصي على الطاولة كأولوية وبشكل أكثر تفصيلي، للنظر في آليات التعامل بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، لتحديد الثابت والمتغير فيها، وما ينبغي اتخاذه من خطوات تساهم في تأمين مصالح قبرص التركية من جهة ولا تنتهك محددات الأمن القومي التركي من جهة أخرى.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة