التحالفات السياسية في العهد النبوي (2)

د. أشرف عيد

24 أبريل 2025

268

اتجهت قريش إلى عقد تحالفات قوية لتعزز مكانتها السياسية والتجارية في الجزيرة العربية مما جعلها محاطة بحلف سياسي عسكري قوي يخشى بأسه؛ لذا اتجه الرسول إلى الأخذ بأسباب القوة؛ فعمل على تأمين الجبهة الداخلية، وعقد تحالفات لمواجهة قريش وحلفائها.

التحالفات السياسية حتى سنة 6هـ:

لما هاجر الرسول إلى المدينة واجهته تحديات أمنية كبيرة تهدد المسلمين؛ فالمجتمع القبلي في الجزيرة العربية لا يعترف بضعيف؛ والقبائل المحيطة بالمدينة تمارس السلب والنهب وقطع الطريق، وستهاجم المدينة إذا أحست بضعف المسلمين؛ فشرع في تأمين المدينة والدفاع عنها، وإشعار القبائل المحيطة بالمدينة بقوته؛ لذا اتسمت أهداف التحالفات السياسية التي عقدها المسلمون في تلك الفترة بالدفاعية ورد العدوان. 

التحالفات السياسية في العهد النبوي (1) |  مجلة المجتمع الكويتية
التحالفات السياسية في العهد النبوي (1) | مجلة المجتمع الكويتية
يدور المفهوم العام للتحالفات السياسية إلى التعاقد...
mugtama.com
×

-اتفاقية الدفاع المشترك عن المدينة:

عقد معاهدة مع مختلف قبائل المدينة: الأوس والخزرج واليهود تتضمن الإقرار بالحرية الدينية والحقوق والواجبات بما يحقق التعايش السلمي والتعاون في الدفاع عن المدينة ضدو أي عدو يهاجم المدينة ونص الاتفاق بوضوح على معاداة قريش وعدم التحالف معها ومقاطعتها، ومما تضمنه: "وإنه من تبعنا من يهود؛ فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"(1).

- التحالف السياسي مع القبائل المحيطة بالمدينة:

أراد رسول الله أن ينال من قريش بعض ما صادرته من أموال المسلمين، فأخرج السرايا متتابعة تجوب  طريق قوافل قريش، وقد آتت تلك السرايا ثمارها في كسب أنصار وتأسيس تحالفات من شأنها كف الأذى عن المسلمين وتأمين الطرق التي يسلكونها، وألا يعينوا عدوهم، فعقد تحالفًا مع قبائل جُهينة وغِفار وضَمْرة الواقعة ديارهم في طريق تجارة قريش إلى الشام وضمن حيادهم في الصراع مع قريش دون النظر إلى ما عليه هذه القبائل من عبادة الأصنام، فقد نص الاتفاق بين المسلمين وضَمْرة على المسالمة والنصرة على من يعتدي عليهما: "لا يغزوهم ولا يغزوه... وأن لهم النصر على من رامهم، وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر على من بر منهم واتقى(2).

وقد شجع انتصار المسلمين في بدر سنة 2هـ القبائل على عقد معاهدات مع المسلمين، بينما لم يلبث اليهود طويلًا على عهدهم؛ فأظهروا الخيانة، وظنوا أنفسهم أنهم أكثر قوة من قريش، فاتجهوا إلى التهديد والتأليب والخيانة مما دفع رسول الله لحصار بني قينقاع ثم النضير.

- تحالف الأحزاب لاستئصال المسلمين في غزوة الأحزاب سنة 5هـ:

لم يعتبر اليهود بما نالوه جزاء خيانتهم؛ فاتجه نفر منهم لعقد تحالف لاستئصال المسلمين، فزينوا لقريش وغطفان لمهاجمة المدينة، وقالوا لهم: "إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله".

وبالفعل زحف الأحزاب على المدينة في جيش كبير قوامه عشرة آلاف مقاتل؛ وظن يهود بني قريظة أن الدائرة هذه المرة على المسلمين، ولا عاصم لهم ولا نجاة؛ فنقضوا عهدهم مع المسلمين وتحالفوا مع الجيش المهاجم، وعانى المسلمون شدائد في هذه الغزوة وزلزلوا زلزالًا شديدًا، ولما أذهب الله كيد الأحزاب في نحرهم تخلص المسلمون من بني قريظة لتبدأ صفحة جديدة من القتال في ميدان آخر(3).

- ردع القبائل العربية شمال الجزيرة:

أدى انتصار المسلمين في بدر إلى ضعف تجارة مكة مع القبائل العربية شمال الجزيرة، وتأثرت تجارة الروم مع مكة؛ فاتجهت تلك القبائل إلى فرض حصار تجاري على المدينة، وقطع أسباب الحياة عنها باعتراض تجارتها إلى الشام التي تمثل أحد شرايين الحياة لأهل المدينة مما دفع رسول الله للخروج بألف مقاتل أوائل سنة 5هـ إلى دُومة الجندل على مشارف الشام لقتال ملكها أُكَيْدِر بن عبد الملك السَّكونيّ الذي فر عندما علم بخروج المسلمين إليه، وبذلك فُتحت جبهة قتال أخرى بالشام أمام المسلمين بجانب جبهة قريش، وأرسل الرسول في السنة التالية عدة سرايا إلي وادي القرى وأرضي حِسْمَى ببادية الشام ودُومة الجندل للمرة الثانية(4).

- التحالفات السياسية بعد صلح الحديبية (6-11هـ):

اتسمت تلك الفترة بظهور المسلمين كقوة إقليمية صاعدة انتهت على يديها قوة قريش، وأصبحت تواجه أقوى تحالف يضم قبائل العرب والروم مما كان مقدمة لزوال ملك الروم من بلاد الشام.

- توازن القوى بين المسلمين وقريش:

عقدت قريش مع النبي صلح الحديبية سنة 6هـ، وهو اعتراف بقوة المسلمين، ونص الاتفاق على: من أراد أن يدخل في حلف النبي وعهده دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، وقد أتاح ذلك الصلح للنبي فترة سلمية يتفرغ فيها للدعوة، وتأسيس تحالفات لتقوية المسلمين أمام أعدائهم، وقد أدى ذلك الصلح ببعض القبائل إلى مهادنة المسلمين أو التحالف معهم، مثل: خزاعة وأَسْلم وأهل مَقْنَا بالقرب من أيلة (العقبة)، ونصارى نجران، وغيرهم.

لم تلبث قريش طويلًا على عهدها، فساندت بني بكر في قتال خزاعة حلفاء رسول الله، وهم بذلك قد نقضوا العهد مع رسول الله؛ فخرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة وأخبر رسول الله بالأمر؛ فقال رسول الله: "نصرت يا عمرو بن سالم". وأوفى رسول الله بعهده لخزاعة، وكان ذلك سببًا في فتح مكة، ونهاية الصراع مع قريش، وبداية صفحة جديدة لنشر الإسلام في الجزيرة ومواجهة تهديدات القبائل العربية في الشمال. 

التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها |  مجلة المجتمع الكويتية
التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها | مجلة المجتمع الكويتية
في مجال السياسة الشرعية، رأى العلماء أن أكبر قاعدة...
mugtama.com
×

- توازن القوى بين المسلمين وتحالف عرب الشمال والروم:

كان بين الروم وقبائل الغساسنة في بلاد الشام تحالف قوي على مدار قرون طويلة، يقوم بموجبة الغساسنة بحماية حدود الروم ناحية الجزيرة العربية، ويساند كل منهما الآخر في حروبه، وأرسل رسول الله يدعو للإسلام ملوك كسرى وقيصر وقبائل الجزيرة العربية؛ فأرسل رسول الله مبعوثًا إلى ملك بُصرى يدعوه إلى الإسلام، فقتله أحد زعماء الغساسنة، ثم قتل مرة أخرى جماعة أخرى من المسلمين كانوا يدعون قبائل الشام إلى الإسلام الأمر الذي دفع إلى المواجهة القتالية بينهما.

بعث رسول الله سنة 8هـ جيشًا قوامه ثلاثة آلاف لقتال الغساسنة الذين أعدوا مع القبائل العربية الأخرى مائة ألف مقاتل، وهبّ الروم لنجدة حلفائهم بمائة ألف مقاتل. واجه جيش المسلمين في مؤتة مائتي ألف مقاتل في معركة غير متكافئة في العدد والعتاد، وأظهروا فيها بسالة فائقة، وانتهت المعركة دون أن يحقق أيُّ منهما نصرًا على الآخر، لكن نتائجها الأبرز ظهور قوة المسلمين على الساحة الدولية؛ فالروم القوة العظمى في ذلك العصر وحلفاؤها لم يستطيعوا بهذا الجيش الجرار أن يهزموا ثلاثة آلاف مقاتل، ومن ناحية أخرى تأكد أن المواجهة المباشر بين المسلمين والروم قادمة وحتمية، وهو ما أسفرت عنه أحداث السنة التاسعة للهجرة التي خرج فيها رسول الله لقتال الروم في تبوك لما تأكدت له الأخبار باستعداد الروم لمهاجمة ديار الإسلام، فلم يجد للروم جيشًا؛ فعقد تحالفات مع العرب في تلك الديار، وتوافدت الوفود إلى المدينة للدخول في الإسلام، ثم أرسل رسول الله أسامة بن زيد لقتالهم سنة11هـ رغم مرضه الذي توفي فيه(5).

وهكذا أدرك الرسول منذ هجرته أهمية القوة العسكرية في مجتمع لا يعترف بالضعفاء، ولا يقيم لهم وزنًا؛ فاتجه إلى الأخذ بأسباب القوة جميعها في عقد تحالفات متعددة، وحارب في عدة جبهات يحدوه الأمل في النصر مهما بلغت قوة عدوه، وضعف جنده.
________________________

 

(1) السيرة النبوية لابن هشام ج1ص503.

(2) سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد للصالحي؛ باب غزوة الأبواء 4/25.

(3) السيرة النبوية لابن هشام ج2ص221.

(4) المسلمون والروم في عصر النبوة للدكتور عبد الرحمن سالم، ص61.

(5) المرجع السابق، ص90.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة