الترف الحضاري

رمضان

10 سبتمبر 2017

5

معظم الدلائل تشير إلى أننا لسنا في فترة يمكن أن يقال فيها: إنها فترة الترف الحضاري، ولكننا ربما تعمقنا فيما يمكن أن نسميه بالترف الذاتي الذي نتج عن الطفرة المادية التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير من القرن الماضي "1390"، لقد تعمقنا في الاهتمام بالمظهر، لكن المخبر لا يزال يحتاج إلى وقت أطول وأوسع في التعمق، هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أننا خِلْوٌ من مقومات الحضارة الحقة، لكن الظاهر - على كل حال - هو الجانب الغالب، وهو جانب مؤقت ربما أبعدنا عن الحضارة، أو قل: ربما أخَّر مسيرتنا نحو الحضارة والنمو، والذي يعود إلى خطط التنمية السابقة واللاحقة يدرك مدى التركيز على تحضير الفرد المواطن من خلال توفير أسباب الحضارة العميقة القائمة على قواعد أساسية صلبة ثابتة تأخذ من شرع الله منطلقًا لها، وهذا ما تسميه الخطط التنمية بالتجهيزات الأساسية.

والترف الذاتي الذي نعيشه ذو جوانب كثيرة مظهرية لا جوهرية تقوم على اللباس والبناء ووسيلة المواصلات ووسائل التكريم، فهناك من فرش رقعة صغيرة من بيته بمبلغ ثلاثمائة ألف ريال للحمام فقط، ثم يعمد إلى تغيير هذا الأثاث بين فترة وأخرى غير بعيدة، وربما لا تصل إلى السنة الواحدة، وهناك من يعمد إلى تغيير السيارة لأن الابن أخذها وأعمل شقاوته فيها بحيث أتلفها، وإن تكن لا تزال تسير، بل إن كثيرًا من الحقائق تشير إلى أن الآباء يتعمدون تغيير سيارات أبنائهم في فترات قريبة؛ نظرًا لأسلوب المعاملة التي تلقاه السيارة من الابن يسيء إلى هذا المجتمع بأكمله..

وهناك مَن يبالغ في عمارة المنزل كله بحيث ترى المنزل قطعة متْحفية لكنها لا تمت إلى هذه البيئة بصلة من قريب أو بعيد، فأحجار الرخام تغطي جدران المنزل، وأسلوب "تفصيل" المنزل يوحي بشيء من المزاجية المعوجة عمدًا إلى التميز عن المنازل الأخرى المجاورة، مع أن الإسمنت والرخام بهذه الصورة لا يمكن أن يناسب مناخ هذه البيئة مما يستدعي الإكثار من المكيفات الباردة والحارة والذي يجر بدوره إلى الترف في استهلاك الكهرباء مما حدا بالبعض إلى أن يسمي هذه الحضارة بالحضارة "الإسمنتية".

وجانب ثالث من جوانب الترف الذاتي، ذلك المتمثل في الأسلوب الذي تقوم فيه ولائم الأعراس وحفلات تكريم الأقارب والأصدقاء، وقد وصلت هذه الفكرة إلى حد عجيب جعل من الكثيرين ممن يعيشون في مجتمعات يخيم عليها الجوع يصابون بالدهشة، بل إن أحدهم سقط على الأرض باكيًا عندما رأى صندوقًا للزبالة مليئًا بالطعام، وآخر أصيب بشيء من الذهول عندما رأى صندوقًا آخر قد تربع عليه خروفان كاملان مطبوخان لم تمسهما يد إنسان مع وجود محاولات للحصول على الأطعمة وتوزيعها.

واللباس جانب آخر يبرز فكرة الترف الذاتي، وهو بين النساء والرجال شائع على حد سواء، حيث تجد أصنافًا من المجوهرات والأقمشة التي لا تترك للزمن يقضي عليها إما بنزول أسعارها في الأسواق أو بتركها تحرقها الحرارة وسوء التخزين.

هذه جوانب للترف الذاتي فيها دلالة على المظهرية التي يعيشها مجتمع هذه المنطقة، أما مقومات الحضارة الحقة فهي ما تحتاج إلى إعمال فكر ونزول إلى الأسواق حيث البناء والتشييد القائم على الاكتفاء الذاتي بالسواعد الوطنية العاملة التي تلبَس القبعات الواقية وتتلقى تعليمها الفني والتقني في المعاهد والمؤسسات التي أنشئت لهذا الغرض، وإعمال الفكر يحتاج كذلك إلى طرق أبواب الكتاب وارتياد المكتبة سعيًا وراء إيجاد حلول معينة قائمة على العملية والبحث في سبيل القضاء على مشكلات اجتماعية معينة تساهم المكتبة مساهمة فعالة في التغلب عليها، ولا شك أن المكتبة كانت ولا يزال لها دورها المؤثر في حضارات الأمم.

وأمر ثالث يمكن أن يساهم في التغلب على هذا الترف الذاتي يمكن من خلال التوعية المكثفة على مختلف المستويات من خلال إعطاء المواطن صورة واضحة لما يدور في العالم من حوله من نكبات وأضرار مادية وطبيعية تحول دون الاستمتاع بلذة الحياة، وتشعر المواطن بأنه عضو في هذا المجتمع الكبير وأنه ليس مستثنى من هذا إن لم يعطِ هذه النعمة حقها من الشكر العملي والقولي.

ولعل وسائل الإعلام خير من يقوم بها؛ فالتلفزيون يعرض صورًا حية للبؤس الذي تعيشه المجتمعات المجاورة، بدلًا من أن يعرض دلائل للترف الحضاري الذي وصلت إليه بعض المجتمعات وذلك مثل البرامج الترفيهية التي تبرز هذه الظاهرة بالذات على أنها إفرازات لهذا الترف.

والإذاعة من خلال الحديث والمقابلات والندوات، والصحافة من خلال المقالات والاستطلاعات والصور وما إلى ذلك، وإني أكاد أجزم أن هذه الوسائل سيكون لها مردود إيجابي، وأوكد أخيرًا على أننا لا نزال نملك مقومات الحضارة الحقة وكل ما نحتاجه هنا هو صقلها وتنميتها وجعلها بارزة للعيان، هذه المقومات إنما تقوم على نظام رباني للحياة يدعو إلى الحضارة والحكمة والعلم.

المصدر: مجلة "اليمامة" العدد 845.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة