العربية.. معنى وفضلاً وضرورة وأهمية
لم أُعنون المقال بقولي «اللغة العربية»، ليس لأجل ترك الاصطلاح المتأخر الشائع والعدول إلى الأدق بأن العربية لسان -كما يقال اللسان العبراني واللسان الفارسي- لا لغة -كما يقال لغة قريش ولغة طيء ولغة هذيل- وإنما لأن العربية لا توضع بجانب غيرها فتقرن بها، فإن العرب وقبل أن ينزل القرآن يسمون كل لسان غير لسانهم لسانًا أعجميًا، وكأنهم ساووه بكلام العجماوات التي لا تُعرب ولا تُبين، ويُفهم من القرآن خير من هذا المعنى وزيادة حين قال رب العالمين: (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل: 103)، فإن للعربية شرفًا لا يدانيها فيه لسان آخر، وفي هذا المقال نستعرض نقطة من بحر معانيها وفضلها وضرورتها وأهميتها.
معنى العربية
نجد في معاجم اللغة أن عَرِبَ الرَّجُلُ أي صَارَ فَصِيحاً، عَرَبٌ عَرْباء أي صُرَحاءُ خُلَّص، عَرَّبَ الكلامَ أي أَوضحَه، وأعرب كلامَه أي كشفه وبيَّنه، ومثل ذلك نجد معنى الإبانة في جميع اشتقاقات الكلمة، ونجد هذا المعنى ظاهرًا في عدد من آيات القرآن، منها قول الله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {1} إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف).
وعليه، فلسان العرب لسان الإبانة والإيضاح والكشف والصراحة، وهذه الخصيصة أظهر ما فيه، وكل دراسة جادة لدقائق العربية فمآلها إلى هذا المعنى.
فضل العربية
وفضل العربية على سائر الألسن صائر إلى أمرين؛ سموها في ذاتها، واختيار الله لها لتحمل الرسالة الخاتمة، ولعل الرابطة بين الأمرين ظاهرة.
أما الأول: فهو ما يقف عليه اللغويون حتى غير المسلمين منهم، فالعربية أشد اللغات تمكنًا في اشتقاقاتها وتصاريفها وكثرة مفرداتها واعتدال مستواها الصوتي ودقة مستواها الدلالي، ويكفي أن نشير إلى أمر باهر ذكره الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه العين من أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب -يعني الجذور لا الكلمات- من غير تكرير ينساق إلى اثني عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثني عشر (12305412)(1)، فما البال بعدد الكلمات المتصرفة من هذه الجذور! وصدق الشافعي حين قال: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي»(2).
وأما الثاني: فإن الله قد أرسل رسله بلسان أقوامهم ليبينوا لهم، وقد قدَّر أن تكون الرسالة الخاتمة للناس كافة الباقية إلى قيام الساعة بهذا اللسان الأسمى، قال السرقسطي: «إن أشرف ما عني به الطالب بعد كتاب الله عز وجل لغات العرب وآدابها، وطرائف حكمها؛ لأنّ الله تبارك وتعالى اختارها بين اللغات لخير عترة، وأشرف أمة، ثم جعلها لغة أهل دار المقامة في جواره ومحل كرامته، فهي أفصح اللغات لسانًا، وأوضحها بيانًا، وأقومها مناهج، وأثقفها أبنية، وأحسنها بحسن الاختصار تألفًا، وأكثرها بقياس أهلها تصرفًا»(3).
العربية ضرورةً
وإن البيان عمومًا ضرورة فطرية، امتن الله بها على عباده، (خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن)، فكما يقال: اللغة وعاء الفكر، ولها تأثير عظيم في العقل، وكلما ارتقت اللغة ارتقى معها التفكير، وهذه حقيقة مجربة لا يختلف فيها الناس، ولا خلاف بين المختصين في اللغويات على تفاوت رتب اللغات وتفضيل أحدها على غيرها، وقد أثبت العلم التجريبي ذلك أيضًا، فإنه قد كشفت دراسات بمساعدة التصوير المقطعي بالرنين المغناطيسي أن اللغة الأم تشكل وسيلة الاتصال في الأدمغة؛ التي قد تكمن وراء طريقة التفكير، فهي التي تشكل كيفية بناء الدماغ للاتصالات بين مختلف محاور معالجة المعلومات(4).
ونحن المسلمين مصدقون بتلك الضرورة الفطرية التي أكدها العلم التجريبي، ومصدقون كذلك بالضرورة الشرعية المقررة أن أفضل الألسنة إبانةً وأعظمها حثًا على العقل هو لسان العرب، قال الله عز وجل: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء: 195)، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وبهذا فإن العربية هي الوحيدة التي اجتمعت فيها الضرورتان الفطرية والشرعية، فمن يرد الإبانة فلا أصلح من العربية لتكون لسانه، ومن يرد الإسلام فليس له إلا العربية ليعقله بها.
العربية أهميةً
وإن الضرورة تولي الأهمية لتعلم العربية حد الوجوب الشرعي، قال ابن تيمية: «فإن نفس اللغة العربية من الدِّين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»(5).
وليست المعرفة بالعربية في الأعيان واحدة، فمنها ما يقيم أصل الدين، ومنها ما يقيم واجباته، ومنها ما يقيم كمالاته، وكلما ازداد المرء من معرفتها ازداد في دينه، قال الشافعي: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك»(6).
ولا شك بأن الأكمل هو الوصول إلى درجة التمكن منها، حتى يصل بذلك إلى معرفة إعجاز القرآن وفضله، بل وإقامة الدليل على ذلك، قال ابن قتيبة: «وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتساع المجال ما أوتيته العرب خصيصي من الله، لما أرهصه الله في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب»(7).
وإنا ليصح لنا الجزم بأن كثيرًا من البعد عن الإسلام الحاصل في زماننا علمًا وعملًا يمثل البعد عن معرفة العربية منه قدرًا كبيرًا إن لم يكن الأكبر، فإن عدد المسلمين الذي يمثل حوالي ملياري إنسان لا يعرف العربية منهم تحدثًا سوى الربع فحسب، وهذه المعرفة في أكثرهم مجملة لا ترقى لمعرفة دقائقها الموصل إلى فهم إعجاز القرآن وعلل الشرائع وحِكَم العبادات، فعلى كل مسلم أن يوفي بجميل العربية عليه بحفظ جنابها ودوام لزومها ونشرها في الآفاق، فهذا سبيل عظيم لنشر الإسلام؛ بل السبيل الأعظم.
_____________________
(1) نقلًا عن إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الحموي (3/ 1261).
(2) الرسالة، ص42.
(3) الأفعال (1/ 51).
(4) وليراجَع تمثيلًا على ذلك: دراسة أجريت في معهد ماكس بلانك لعلوم الإدراك البشري والدماغ في ألمانيا والتي نشرت في مجلة «NeuroImage» برئاسة الباحث ألفريد أنواندر.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم، ص207.
(6) الرسالة، ص44.
(7) تأويل مشكل القرآن، ص12.