التعليم.. ومستقبل غزة

مصطفى عاشور

20 أغسطس 2025

71

عندما هزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945م، تعرضت لأزمة تعليمية كبيرة، مثلما يحدث في غزة، فأغلب المدارس دمرت، وفقدت البلاد عدداً كبيراً من المعلمين، كذلك لم يمض إلا أعوام قليلة حتى زادت أعداد المواليد بعدما عاد الجنود إلى زوجاتهم، وبعد عامين فقط من توقف الحرب، كانت المدارس المتوسطة لا تستطيع إلا استيعاب 15% من الطلاب.

وأمام هذا المأزق لجأت اليابان إلى ما أسمته «مدارس الهواء الطلق» التي كانت تُقام في أرض فضاء مفتوحة لتعليم الطلاب، هذا الحل الابتكاري دفع المجتمعات المحلية إلى المساهمة بقوة في بناء المدارس، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى تم تشييد غالبية المدارس.

أهم ملامح الدرس الياباني في التعليم بعد الحرب، هو اعتبار التعليم هدفاً إستراتيجياً، وهو ما استوجب إحداث تغيرات كبرى في مناهج التعليم، والأهم عدم مواجهة مشكلات ما بعد الحرب في وقت واحد، ولكن تجزئة المشكلة، ومنح الزمن والوقت الكافي لترميم ذلك الدمار، وفتح الباب أمام مساهمة المجتمع المحلي، وإدراك أن سنوات ما بعد الحرب تحمل قدراً من الارتباك والتجريب وربما الفشل، وضرورة قبول ذلك دون الركون لليأس، فالتعليم هو بوابة النهوض والمضي إلى المستقبل.

5 حروب في عقدين

غزة مأساة تعليمية تشبه اليابان، وإن كانت غزة أشد، لكن فرصة الإنجاز كذلك قد تكون أكثر لغزة من الحالة اليابانية، نظراً للإمكانات التي تتيحها الرقمية في التعليم والتأهيل، وكذلك في المساندة العالمية المتوقعة بعد توقف أصوات الرصاص، وكذلك الكفاءات البشرية الفلسطينية الكثيرة في الخارج.

عانى التعليم في غزة من حروب واعتداءات كبرى شنتها «إسرائيل» على غزة في أعوام 2008-2009، و2012، و2014، و2021م، هذه الاعتداءات أجهدت النظام التعليمي، قليل الموارد، لتأتي الأزمة الكبرى مع حرب الإبادة والتجويع التي تشنها «إسرائيل» منذ أكتوبر 2023م.

وقبيل الحرب الأخيرة، كان أكثر من 658 ألف طالب في مراحل التعليم المختلفة، وهؤلاء توقفوا عن التعليم، رغم الجهود المخلصة لإحياء العملية التعليمية في بعض المناطق في القطاع، لكن ما جرى من تدمير كان كبيراً، تشير الإحصاءات إلى أن من 95% من المباني المدرسية دُمرت، وقتل آلاف الطلاب، كما قتل آلاف من الكوادر التعليمية، وكان القتل أكثر وضوحاً في الكوادر الجامعية، إضافة إلى الإعاقات التي أصيب بها آلاف الطلاب.

تشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من 88 ألف طالب في التعليم العالي حُرموا من استكمال دراستهم، فأغلب مؤسسات التعليم العالي دُمرت، وتم تصفية أعداد كبيرة من كوادرها التعليمية، ناهيك عن الإعاقات التي أصابت عدداً كبيراً من الطلاب.

أما الأزمات النفسية وصدمات ما بعد الحرب، فكانت أكثر وضوحاً، حيث أشارت دراسات ميدانية أجريت على شريحة من الطلاب في غزة أن حوالي 4.3% من الطلاب فقط الذين شملهم الاستطلاع لم تظهر عليهم أعرض اضطرابات ما بعد الصدمة، ومعنى هذا أن الغالبية من الطلاب يعانون من اضطرابات الصدمة، وهذا ما يصعب العملية التعليمية، إذ يتطلب النهوض بالتعليم بعد توقف الحرب، والتأهيل النفسي لهؤلاء الطلاب لتلقي التعليم، وإدماجهم في أجواء من الطمأنينة والروتين، ترمم الندوب العميقة في نفوسهم، وما شاهدوه من دماء وأشلاء ودمار وإعاقات وفقدان للأهل والأصدقاء.

ولعل من الدول التي تنبهت إلى أزمة التعليم في غزة دولة جنوب أفريقيا التي وصفت ما يجري بأنه «إبادة للتعليم وتدمير للمعرفة»، حيث تشير الإحصاءات الرسمية في غزة إلى أن أكثر من 350 مدرسة رسمية أو تابعة لوكالة «الأونروا» تعرضت للتدمير في القطاع، وأن الاحتلال «الإسرائيلي» كان يستهدف المدارس بذريعة أنها تؤوي المقاومين، بعدما تحولت المدارس إلى مراكز للإيواء.

والحقيقة أن تحويل المدارس كمراكز للإيواء له أبعاد نفسية مقلقة، إذ تظل تلك المدرسة تذكر الطلاب بالمأساة، لأنها تحمل الذكريات الأليمة.

وفي شتاء عام 2025م، سعى التعليم لاستئناف مسيرته في غزة في تلك الأجواء من الدماء، لكن جاءت السياسة الصهيونية في تجويع القطاع لتضع عائقاً كبيراً أمام تلك المحاولة التي انطلقت رغم أن أكثر من 93% من مدارس القطاع خرجت من الخدمة الفعلية ولا تصلح لممارسة النشاط التعليمي.

ألا يوجد أمل؟

ولكن ألا يوجد أمل في النهوض بالتعليم في غزة بعد الحرب؟ الواقع أن أي صراع مهما طال لا بد أن ينتهي، أو تنخفض درجة حدته إلى مستوياته الدنيا، وهو ما يسمح لعوامل الحياة أن تستأنف طريقها، وخلصت الدراسات المختصة في واقع التعليم بعد الحروب، فإن التعليم لا ينهض فور انتهاء الحرب، ولكن يأخذ وقتاً لحين تعافي النفوس وتضميد الجراح وإعادة ما تهدم من البنى التعليمية وحين تكتمل وتتوافر الموارد لتحقيق الغاية من التعليم.

- أول خطوة في اليوم التالي للحرب في غزة هي عدم اليأس من النهوض ومقاومة الإحباطات في استعادة المسار الطبيعي في التعليم، فالروح المشبعة بالأمل لا بد أن تدرك أن الوقت جزء من الإصلاح والنهوض، وهو ما يقوي العزائم، ويربط إنجاز التوقعات والأهداف والأحلام بما تستحقه من الزمن.

- ضرورة أن يترافق استعادة التعليم مع تحقيق التعافي النفسي للطلاب والمعلمين والكفايات التعليمية، لأنه بدون ترميم النفوس وترميم المباني والمنشآت سيسير التعليم على قدم واحدة، وربما تكون خطواته متعثرة.

وتؤكد الدراسات أن التعليم إحدى الركائز لتحقيق التعافي النفسي بعد الحرب، فهو يعزز التماسك الاجتماعي، وينقل اهتمام الأفراد والمجتمع من الحديث عن ويلات الحرب إلى حديث آخر يتعلق بالمستقبل والازدهار والتنمية، فهو نوع من العلاج والوقاية النفسية، فهو أحد أشكال قوة الثقافة، ومن خلال التعليم يمكن إلهام الصمود والتعافي بعد الحرب.

- تأهيل المجتمع بجانب تأهيل العملية التعليمية: فالتعليم هو أحد عناصر المجتمع، فإذا تأهل المجتمع للقيام بدوره ونجا من أزمات ما بعد الحرب فإن التعليم سيأخذ حظه من الدعم المجتمعي، وسيقوم المجتمع بدور في دعم التعليم.

تشير دراسات إلى أنه خلال 20 عاماً (2000 – 2020م) لم يتجاوز الدعم الإنساني للتعليم من إجمالي المساعدات الموزعة على مستوى العالم أكثر من 2.4% من إجمالي المساعدات المقدمة لمناطق الصراعات والأزمات، وهو ما يعني أن مهمة النهوض بالتعليم يقع عبئها الأهم والأساسي على المجتمع المحلي صاحب المصلحة والمسؤولية في النهوض بالتعليم.

وتشير كثير من التجارب إلى أن تعافي المجتمع كان من أهم أسباب احتضان ذلك المجتمع للتعليم، وهو ما تؤكد التجارب المجتمعية، وتشير تجربة رواندا في التعليم، تلك الدولة التي شهدت حرباً أهلية ذبح فيها الكثير من الطلاب والمعلمين، لكنها استطاعت تحقيق تعافٍ سريع، حتى إن منظمة «يونسكو» وصفت تجربة التعليم في رواندا، في تقرير لها صدر عام 2014م، بأن رواندا من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بالتعليم.

ومن الإستراتيجيات التي اتبعتها رواندا هو جعل التعليم مكفولاً للجميع خاصة في المرحلة الإلزامية، كما قدمت دفعة للتعليم والتدريب المهني، وأعطت الاهتمام الكبير للغة، حتى إنها استبدلت اللغة الإنجليزية في التعليم باللغة الفرنسية على اعتبار أن الإنجليزية لغة العلم والتكنولوجيا، كما أنها اعتمدت على التكنولوجيا الرقمية في التعليم، فاعتمدت على المنصات الإلكترونية، حتى إنها أطلقت قمراً صناعياً عام 2019م.




اقرأ أيضاً:

6 رسائل للاحتلال من تدمير البنية التحتية في غزة

من رحم الألم يولد الأمل.. معلمة من غزة قهرت الحصار بالفوز بجائزة خليفة (فيديو)


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة