التقوى والعلم.. كيف تفتح تقوى الله أبواب الفهم والمعرفة؟

العلم في
الإسلام عبادة وقربة قبل أن يكون معرفة وثقافة، وهو نور يقذفه الله في القلب، ومن
أعظم مفاتيحه التقوى؛ وهي مراقبة الله في السر والعلن، والخوف منه مع محبته وطاعته،
وهي شرط لنور العلم قال تعالى: (وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 282).
ولذلك ربط الله
تعالى بين العلم وصفاء الباطن واستقامة السلوك، فالتقوى ليست مجرد خُلق فردي، وإنما
مفتاح لكل خير، ومن أعظم الخيرات العلم، فالتقوى مفتاح أبواب العلم، سواء كان
علمًا دينيًا أم دنيويًا، فهي تنير العقل وتشرح الصدر، فمن اتقى الله شرح صدره
للعلم، وهيأ له أسباب الفهم والهداية، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- التقوى سبب لصفاء القلب وسلامة النية:
القلب محل العلم
والفهم، فإذا امتلأ بالتقوى طَهُر من الشهوات والشبهات، فصار مهيّأً لتلقّي
الحقائق، كما أن القلب الملوّث بالشهوات أو الشبهات لا يقوى على استقبال نور
العلم، بينما القلب التقيّ يصبح كالمِرآة الصافية يعكس الحقائق بوضوح.
ويضاف إلى ذلك
أن العلم النافع يحتاج إلى قلب خال من الحقد، والحسد، والغرور، والتقوى تُطهر
القلب من الشوائب، فتجعل صاحبه يسعى للعلم بنية خالصة لوجه الله، وليس لأغراض
دنيوية كالرياء أو السمعة، ففي مسند أحمد أنَّ لقمان كان يقول لابنه: «يا بُنيَّ،
لا تَعلَّمَ العلم لتُباهي بِه العلماءَ أو تماري به السفهاءَ وتُرائي به في
المجالس».
2- التقوى مفتاح نور الفهم:
الكثير من أبواب
العلم لا تُفهم إلا لمن وُفق لتقوى الله، فهي التي ترفع الحجاب بين العقل والحق، ويدل
على هذا ما قاله عبدالله بن مسعود: إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها،
وأن العالم من يخشى الله، ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
(فاطر: 28)(1).
وأورد ابن القيم
أن الإمام الشافعي جلس بين يدي الإمام مالك، وقرأ عليه، فأعجبه ما رأى من وفور
فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نوراً،
فلا تطفئه بظلمة المعصية(2).
وقال الشافعي(3):
شكوتُ إلى وكيعٍ
سُوءَ حِفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن
العلم نورٌ ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي
3- التقوى تمنح البصيرة:
التقوى تُنير
القلب وتمنح الإنسان بصيرة تمكنه من تمييز الحق من الباطل، والعلم النافع من الضار،
هذه البصيرة تجعل المتقي يختار العلم الذي يقربه إلى الله، ويستخدمه فيما ينفع
الناس، قال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال:
29).
4- التقوى تجلب الرزق والمعونة:
التوفيق الإلهي
رزق من الله تعالى، وقد وعد الله تعالى من اتقاه بالرزق من حيث لا يحتسب، حيث قال
عز وجل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق)، ولا شك أن من أعظم الرزق رزق الفهم والعلم، كما يجد
طالب العلم المتقي لربه بركة في وقته، وتيسيرًا في حفظه، وتوفيقًا في فهمه.
وفي مقابل ذلك،
حين يرتكب العبد الذنوب فإنه قد يحرم من الرزق بسبب ذلك، ففي مسند أحمد عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ
الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».
5- العمل الصالح علامة على التقوى ومعين على العلم:
العلم الذي لا
يُثمر عملاً وبصيرة لا يعد علمًا نافعًا، والتقوى تجعل العلم مقرونًا بالعمل،
فيكون بركة لصاحبه وللناس، قال الشعبي: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به(4).
فالعمل بالعلم
سبيل إلى تيسيره وحفظه، كما أن العلم إذا لم يكن معيناً على التقوى فإنه يكون حجة
على صاحبه، بل قد يكون سبيلاً إلى الضلال، إذ العلم دين، فقد روى مسلم في صحيحه
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا
عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ».
________________
(1) جامع بيان
العلم وفضله: ابن عبد البر (1/ 691).
(2) الجواب
الكافي: ابن القيم، ص 104.
(3) ديوان
الشافعي، ص 88.
(4) جامع بيان
العلم وفضله: ابن عبد البر (1/ 709).