التهجير من المنظور الشرعي

د. فاطمة حافظ

27 يوليو 2025

120

استند المشروع الصهيوني منذ تأسيسه إلى مبدأ تهجير الفلسطينيين من أرضهم وإحلال اليهود الأجانب محلهم، ومع قيام الدولة اليهودية صار التهجير القسري هدفاً قومياً تبنته الحكومات المتعاقبة على اختلافها، ومن أجله ارتكبت المجازر المتوالية وسنت التشريعات التي تسهل الاستيلاء على الأراضي وصولاً إلى الإبادة والتجويع المفضي إلى الموت لأجل إنفاذ مشروع التهجير وإجلاء الأرض من أهلها.

ومن خلال السطور التالية، نحاول بيان موقف الفقه الإسلامي من جريمة التهجير القسري، ثم نعرض للموقف الإسلامي من مسألة تهجير الفلسطينيين من خلال استعراض مواقف بعض القوى الإسلامية قديماً وحديثاً.

مصطلح التهجير، بمعناه السياسي، لم يكن معروفاً في الأدبيات الإسلامية، لكن جريمة التهجير كانت معروفة منذ القدم، فالقرآن أشار في بضع آيات إلى الذين (أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ) (الحج: 40)، ونعت من يمارسونها بالكفر والظلم؛ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم: 13)، ووعد المخرجين بالعودة لسكنى الأرض محل من أخرجوهم.

ومن الناحية الفقهية، تعد أرض فلسطين وقفاً إسلامياً منذ فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، ولا يجوز بيعها أو التصرف فيها بالبيع والتنازل وما إلى ذلك من التصرفات، وهي من جهة أخرى أرض إسلامية مغتصبة يجب الدفاع عنها بكل الوسائل، وتثبيت أهلها الذين هم أهل رباط وثغور كما ورد في الحديث، وخلاصة الرأي الفقهي في هذه المسألة كما أجمع عليه العلماء هو وجوب المكوث في الأرض وإن طال البلاء، ووجوب نصرة المسلمين لهؤلاء المرابطين بالمال والعتاد وكل ما يعينهم على الصمود.

وهذا الرأي ليس جديداً يخص نازلة «طوفان الأقصى» وما بعدها، وإنما يعود إلى بدايات القضية الفلسطينية؛ إذ أجمع علماء فلسطين ومفتوها في اجتماعهم المنعقد عام 1935م برئاسة الحاج أمين الحسيني على أن «بائع الأرض لليهود في فلسطين سواء كان ذلك مباشرة أو بالواسطة، وأن السمسار والمتوسط في البيع والمسهل له والمساعد عليه بأي شكل.. كل أولئك ينبغي ألا يُصلى عليهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والتقرب منهم؛ ولو كان أبناء أو آباء أو إخواناً أو أزواجاً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة: 23)، هذا وإن السكوت عن أعمال هؤلاء والرضا بها مما يحرم قطعاً».

وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ رشيد رضا في فتوى له نشرتها «المنار» في ذات العام، ومما ورد فيها: «إن من يبيع شيئاً من أرض فلسطين وما حولها لليهود أو للإنجليز فهو كمن يبيعهم المسجد الأقصى، وكمن يبيع الوطن كله؛ لأن ما يشترونه وسيلة إلى ذلك.. فرتبة الأرض من هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده، وهي بهذا تعد شرعاً من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة، وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل، وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام، ولا أذكر هنا كل ما يستحقه مرتكب هذه الخيانة»، في إشارة إلى أنهم مرتدون خارجون عن ملة الإسلام كما أشارت فتوى علماء فلسطين السابقة.

 

التهجير القسري.. كيف يعيد الاحتلال تشكيل المخيمات الفلسطينية شمال الضفة؟ |  Mugtama
التهجير القسري.. كيف يعيد الاحتلال تشكيل المخيمات الفلسطينية شمال الضفة؟ | Mugtama
المخيمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية، تشهد عمليات تهجير ممنهجة تهدف إلى تغيير الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بالقوة، ويسعى الاحتلال «الإسرائيلي» إلى تفكيك هذه المخيمات وإعادة تشكيلها بما يخدم مخططاته التوسعية، من خلال هدم المنازل والبنية التحتية، وفرض الحصار، وتهجير السكان بشكل قسري، في محاولة لطمس الهوية الوطنية للمخيمات وإضعاف دورها في مقاومة الاحتلال، إلا أن الفلسطينيون لا يزالون متمسكين بالبقاء في مخيماتهم.
mugtama.com
×


ولم يشذ موقف المؤسسات الإسلامية عن هذا الرأي، فقد أصدر الأزهر الشريف عشرات الفتاوى والبيانات منذ بدء الصراع، أكدت كلها عدم جواز التنازل عن الأرض بأي صورة.

ونذكر من بينها فتوى لجنة الإفتاء برئاسة الشيخ عبدالمجيد سليم في عام 1947م التي نصت على أنه «لا يشك مسلم في أن من عاون هؤلاء الأعداء بأي ضرب من ضروب المعاونة ببيع شيء من أرضه أو التوسط في هذا البيع أو بمعاملتهم تجارياً أو اقتصادياً أو بخروجه عن جماعة المدافعين عن بلادهم يكون أعظم جرماً وأكبر إثماً ممن ترك الجهاد وهو قادر عليه، ولا يشك مسلم أيضاً أن من يفعل ذلك فليس من الله ولا رسوله ولا المسلمين في شيء.. والذي يستبيح شيئاً من هذا بعد أن استبان له حكم الله فيه يكون مرتداً عن دين الإسلام فيفرق بينه وبين زوجه، ويحرم عليها الاتصال به، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين».

وتختتم الفتوى بالإشارة إلى مسألة أغفلتها الفتاوى السابقة وهي مساندة من يحتاج من المسلمين حتى لا يضطر إلى بيع ما يملك للأعداء بالقول: «هذا، فإذا كان من بين المسلمين أو إخوانهم المواطنين لهم من هو يحتاج إلى بيع شيء من أرضه وجب على جماعة المسلمين أن يدفعوا حاجته بشراء ذلك منه أو بمساعدته بما يغنيه عن البيع».

وهذا المطلب سوف يتبلور بصورة أكثر وضوحاً لدى المؤسسة الأزهرية ممثلة في مجمع البحوث الإسلامية الذي اقترح عام 1968م بإنشاء صندوق دولي لدعم الكفاح الفلسطيني بحيث يكون له فروع في البلاد الإسلامية المختلفة، ويتم تمويله من أموال الزكاة باعتبار دعم الجهاد وتثبيت المرابطين مصرف من مصارف الزكاة.


التجويع للتهجير.. نتنياهو يفضح مخططه الذي لم يعد سراً! |  Mugtama
التجويع للتهجير.. نتنياهو يفضح مخططه الذي لم يعد سراً! | Mugtama
في لقائه بمجموعة من ضباط الاحتياط، في 8 مايو 2025م...
mugtama.com
×


ومنذ «طوفان الأقصى»، توالت الفتاوى والبيانات التي أكدت عدم جواز التنازل عن الأرض والهجرة عنها، حيث أصدرت المؤسسات الإسلامية ومجالس الإفتاء المختلفة عدداً كبيراً منها، ويمكن أن نتخير من بينها فتوى «مجلس علماء المسلمين» حول حكم تهجير أهل فلسطين في غزة والضفة، وفيها تمت مناقشة الموقف الإسلامي النظري من مسألة إخراج الناس من أراضيهم عنوة، ثم أوضحت خصوصية أرض فلسطين وبيت المقدس، وخلصت إلى أن العلماء بينوا «أن المسلم إذا كان قادراً على البقاء في المكان الذي هو فيه وينبني على خروجه منه تحوله من دار إسلام إلى دار حرب؛ فإنه يجب عليه البقاء في مكانه، قال الإمام الماوردي: إن كان المسلم يقدر على الامتناع والاعتزال حتى وإن كان لا يقدر على الدعاء والقتال، فهذا يجب عليه أن يقيم ولا يهاجر، لأن داره قد صارت باعتزاله دار إسلام، وإن هاجر عنها عادت دار حرب».

ودعت الفتوى إلى دعم الفلسطينيين المحاصرين معتبرة «أن الواجب على أمة الإسلام؛ حكاماً وشعوباً، تثبيت هذا الشعب الصابر وإعانته وإمداده، وإعمار ما تهدم من البيوت والمساجد والأسواق والمدارس، وإصلاح الطرق والبنى التحتية، حتى يتمكن الناس من الصمود في بلدهم، والتقصير في ذلك يعد من أكبر الكبائر، وهو من خذلان المسلمين وإسلامهم لعدوهم.

إن الموقف الإسلامي الثابت تجاه القضية الفلسطينية منذ بدء الصراع يقوم على رفض دعوى تهجير الفلسطينيين وتحريمها مطلقاً، ودعوة المسلمين إلى نصرة الوجود الفلسطيني بالمال والعتاد وكل الوسائل التي يمكنها تثبيت هذا الوجود.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة