رؤية شرعية ومعالجة مقاصدية
الحصار المضروب على غزة.. تجويع أم تركيع؟

إذا كنّا نحن المسلمين لا نرى الحصار
المضروب على أهل غزة إلّا كارثة إنسانية؛ فإنّنا بذلك ندلل على ضعفٍ في فهمنا
وهشاشةٍ في إسلامنا ورِقّةٍ ديننا، وعلى أنّ ما يميزنا عن غير المسلمين قدر ضئيل،
يمحوه، بل قدْ يطغى عليه، تحركُهم وقعودُنا.
إنّ الحصار الظالم هذا إنما ضُرب على أهل
غزة للتركيع لا لمجرد التجويع، وليس لهذا التجويع والتركيع مع القتل والتدمير
والترويع من غايةٍ إلا التهجير القسريّ، الذي يمهد لانطلاقة المشروع الصهيونيّ في
مرحلته الكبيرة والأخيرة، وهذا يعني أنّ المستهدف هو الإسلام نفسه، ويعني بالضرورة
والتبعية أنّ صمود أهل غزة يمثل خطّ الدفاع الأول عن بيضة الإسلام، التي توشك أن
تُفَضَّ على يد كلاب الأرض، ومن هنا من تكييف واقع الصراع على هذا النحو ننطلق إلى
معالجة هذه القضية من الناحية الشرعية ومن الجهة المقاصدية.
فبالنظر إلى رؤية النظام الدوليّ الذي تترأسه الصهيونية العالمية لأهل غزة؛ ليس أمام هذا النظام إلا أن يفعل ما يفعله الآن من تدميرٍ بلا هوادة وقتلٍ بلا شفقة وتجويعٍ بلا رحمة، وتجاهلٍ، بل استخفاف بكلّ ما تقوم به الشعوب من مظاهر التعبير عن الاعتراض والامتعاض.
وما ذاك إلا لأنّ غزّة تمردت على هذا
النظام وضربت أنفَه الناشِبَ في خاصرة الأمة والمتمدّدَ في قلب الأرض المباركة،
وهذا يمثل خروجًا صارخًا على النظام؛ يستثير كبرياءه ويثير مخاوفه ويستجيش قواه
الغاشمة، ومن هنا كان لا بدّ من إطلاقِ يد الكيان ليضرب بغشم وغلظة هذه البقعة
المتمردة، ولا بدّ من تضييقِ الخناق وإحكامِ الحصار عليها من جهة أنظمة الطوق
المحيطة بها، وغلّ كل يد تريد أن تمتد بالعون لها، أو قطعها إذا لزم الأمر ذلك،
وفتحِ الباب على مصراعيه لدعم المعتدي الظالم بكل سلاح عظيم الفتك، وبكل ما يلزم
لاستدامة الفتك من مال ومتاع وغذاء ودواء وقرار سياسيّ أو اقتصاديّ.
وكان لا بدّ كذلك من الاستغناء عن حلفاء
سابقين استخدمهم النظام الدولي في سحق أهل السُّنة؛ لمجرد أنّهم أسرفوا بعض
الإسراف في التظاهر بمناصرة أهل غزة، على الرغم من علم هذا النظام المجرم بأنّ هذه
المناصرة المزعومة ليست سوى ذريعة للاستمرار في قتل المسلمين وتجريف حواضر الإسلام
الكبرى، هذا فقط بالنظر إلى رؤية العمّ سام.
أمّا بالنظر إلى رؤية أهل غزة وفي القلب
منهم «حماس» وفي القلب منها المقاومة، فإنّهم يرون أنّهم مرابطون على ثغر من ثغور
الإسلام، يُعَدُّ الأكبرَ والأخطرَ في هذه الأيام، بل وعلى مرّ الأعوام؛ ثغر إنْ
ولجه العدو فسوف يستبيح خضراء المسلمين ويستأصل شأفة الإسلام، فلا مناص من الثبات
ولا مهرب من المواجهة، فهم إذَنْ يقاتلون عنّا، وعن الإسلام الذي هو ديننا ودينهم،
وعن المقدسات التي لا يملكونها إلا بقدر ما نملكها، ولا يُسألون أمام الله عنها
إلا بقدر ما يُسأل عنها كل مسلم يؤمن بالله، وبقدر ما يقع النظام الدوليّ موقع
العداوة والحرابة والبراء من كلّ مسلم يقعون هم موقع الولاء والأخوة والنصرة لكل
مسلم، وبقدر ما يمثل النظام العالميّ الغشوم للأمة الإسلامية خطرًا وتهديدًا وجوديًّا يمثلون هم صمّام الأمان في مواجهة هذا الخطر الداهم.
ومن هنا، فإنّ تجويعَهم تركيع لنا ولهم،
وإنّ ركوعَهم إنْ وقع لا قدّر الله سيكون هدمًا للجدار الحاجز بين أظفار هذا
النظام وما بقي من معالم الإسلام، وعندها قل على الأمة السلام، وكبّر عليها أربعًا
واقرأ على روحها القرآن من الفاتحة إلى الختام.
وعليه، فإنّ إنفاقنا على أهل غزة ليس تطوّعًا بل فريضة، وليس لنا عليهم فيه من فضل وإنّما هم بعد الله أصحاب الفضل، وإذا كان العلماء قد تعرضوا لمسألة إنقاذ المشرف على الهلاك من الجوع والعطش وهو ليس في موضع الرباط والدفاع عن بيضة الإسلام فقالوا: «إذا استغاث المشرف على الهلاك من الجوع أو العطش وجبت إغاثته.. فإن مُنِعَ حتى أشرف على الهلاك ففي المسألة رأيان.. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقاتل بالسلاح، ويكون دم المانع هدراً» (يراجع في هذا الموسوعة الفقهية الكويتية 4/ 3132)؛ فماذا عسى أن يكون قولهم إذا كان هذا المستغيث المشرف على الهلاك قائمًا عن الأمة كلّها بواجب الدفع والرباط؟! إنّنا وربّي أمام نازلة يشيب لها شعر الوليد.
أمّا خطتنا نحن المسلمين في ظلّ تحكم
النظام الدولي بأذرعه المحلية فتتلخّص في رؤية الواجب على حقيقته، فإن لم نستطعه
أخذنا بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور»، أمّا المعسور فهو العبور فوق أذرع ذلك
النظام إلى أداء الواجب الكبير؛ لأنّ «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وأمّا
الميسور فهو كلّ ما دون ذلك، بدءًا من الدعاء والإنفاق، وانتهاء بممارسة الضغوط
الشعبية المستمرة على هذه الأذرع الآثمة لتغير من مواقفها؛ فإنّها إن غيرت من
مواقفها ولو قليلًا فسوف يتغير الوضع كثيرًا، نعم ستكون هناك صعوبات ومشقات وأخطار
وربما أهوال..
وإنْ؛ فهل نحن أعزّ على الله من أطفال غزّة؟ وهل وصل إلينا الإسلام إلا على ظهور الذين تحملوا الصعاب وخاضوا الأهوال؟
هذه بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
وفي نهاية الأمر هي تجارة مع الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10}
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
{11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصفّ).