الحق في التصور الإسلامي
اقتضت حكمة الله تعالى أن يتأسس نظام
الكون على الحق، فخلق الله السماوات والأرض بالحق، وأرسل الرسل ليقوم الناس بالحق،
وأمرهم بإقامة الحق بينهم، وهو مفهوم مركزي في الشريعة أفاض العلماء في تعريفه
وبيان وجوهه وكيفية تحقيقه.
الحق في اللغة والاستعمال القرآني
يقول ابن فارس: «حق» الحاء والقاف أصل
واحد، وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل، وجمعه «حقوق» و«حقاق»
وحق الشيء، أي: وجب، ويطلق على عدة معانٍ، منها: الثبوت والوجوب، والإلزام،
والإحكام، والصحة.
وقد وردت مادة «حق» ومشتقاتها في القرآن
الكريم 283 مرة، ومعظمها جاء في صيغة الاسم، وقليلاً ما وردت في صيغة الفعل، ولم
يرد «الحق» مجموعاً في القرآن وإنما مفرداً، ومرد ذلك -فيما نرجح- إما لارتباطه
بالله تعالى والتوحيد، أو لأن ما عدا الحق هو الباطل وليس شيء آخر.
ويطلق الحق في الاستعمال القرآني على
وجوه كثيرة جمعها مقاتل بن سليمان في 11 وجهاً، منها الله تعالى والقرآن والدين
والعدل والصدق ومناقضة الباطل والمصالح المعتبرة المقدرة شرعاً للأفراد، وهذا
الأخير كان محور الاستعمال الفقهي.
الحقوق.. أنواعها وخصائصها
يستعمل الفقهاء مفهوم الحق بمعنى عام
شامل هو ما يثبت للشخص من مصالح بالاعتبار الشرعي سواء كانت مالية أم غير مالية،
فقد عرفه الزيلعي بقوله: «والحق ما استحق الإنسان»، وعرفه القرافي بقوله: «حق
العبد مصالحه»، ويقسم الفقهاء الحقوق إما بالنظر إلى صاحبها أو إلى محلها.
وأما ما يتعلق بصاحب الحق فهو ينقسم إلى 3
أقسام:
1- حق الله تعالى، وهو ما كان حقاً خالصاً
لله، فلا يختص به أحد غيره ويطلق عليه «الحق العام»، ولا يجوز فيها العفو أو
الزيادة والنقصان أو التبديل كالعبادات والكفارات.
2- حق العباد، هو ما يتعلق به مصلحة خاصة
لهم، كحرمة مالهم، يقول ابن القيم: «وأما حقوق العباد، فهي التي تقبل الصلح
والإسقاط والمعاوضة عليها».
3- ما اجتمع فيه الحقان؛ أي اجتمع فيه حق
الله تعالى وحق العبد كحد القذف، والقصاص.
وأما ما يتعلق بتقسيم الحق باعتبار محله
فهو ينقسم إلى:
1- حقوق مالية وحقوق غير مالية (معنوية).
2- حقوق شخصية وحقوق عينية، والحقوق
الشخصية هي حق الشخص على شخص آخر، والحقوق العينية هي حق الشخص على الشيء ومن
أمثلتها حق تصرف المالك في ملكه.
3- الحقوق المجردة وغير المجردة، والحقوق
المجردة هي الحقوق القائمة بذاتها التي لا يرتبط بها حق آخر كحق الدين، أما الحقوق
غير المجردة فهي الحقوق التي ترتبط بغيرها كحق القصاص.
وتتميز الحقوق من منظور الشرع ببضع خصائص،
وهي:
أولاً: أن الحقوق لا تُعتبر إلا باعتبار
الشارع الحكيم، فهي تنشأ بأحكامه، وتوجد بإرادته، وبهذا المعنى ليس لأحد أن يقرر
ما هو الحق وما هو الباطل، يقول ابن حزم: إن الشيء لا يكون حقاً باعتقاد من اعتقد
أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الحق حقاً بكونه
موجوداً ثابتاً سواء اُعتقد أنه حق أم اعتقد أنه باطل.
ثانياً: لما كانت الحقوق منحاً قررها
الله سبحانه للإنسان من أجل أن يحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية، فهي ليست
حقوقاً طبيعية لأصحابها، ولا هي منح من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، فليس
للمجتمع أو للدولة التي تمثله أن تتعرض للفرد في حقوقه، كما أنه لا مجال في
الشريعة لتصور الحقوق المطلقة التي لأصحابها الحرية الكاملة في استعمال هذه الحقوق
وفق أهوائهم، وإنما هي حقوق مقيدة بقيود تضمن مصالح الفرد والجماعة.
ثالثاً: الوظيفة الاجتماعية، حملت
الشريعة الأفراد واجبات والتزامات معنوية ومادية تهدف لتحقيق مصالح الجماعة، فجعلت
للحقوق وظائف اجتماعية تعود على المجتمع بالخير والمصلحة، مثل: تحميل الأفراد
واجبات دفع الزكاة والنفقة على الأقرباء الفقراء.
رابعاً: الشمولية، فهي تمتد لتشمل الحقوق
الدينية أو ما أسماه الفقهاء «حق الله»، وتشمل الحقوق المدنية والشخصية كحق
التمليك وحق الولاية على النفس.
خامساً: الأخلاقية، تتصل الحقوق برباط
وثيق مع القيم الأخلاقية، وتعريف الحق في الشريعة يؤكد هذه العلاقة الارتباطية بين
الحق والعدل والصدق والقسط وغيره من المفاهيم الأخلاقية.
الحقوق بين الشريعة والقانون الوضعي
وعلى الجهة المقابلة، فإن الحقوق في
المنظومة القانونية الوضعية حقوق مصدرها البشر، فهي من وضع الإنسان (المشرع،
البرلمان، الحاكم) عبر عملية تشريعية قابلة للتغيير والتبديل، وهي بهذا المعنى
حقوق متغيرة ونسبية إذ لا قدسية لها أو للنص القانوني الذي أنشأها بحد ذاته.
وهي حقوق مادية لا تعلق لها بعالم الغيب،
وإنما هي وثيقة الارتباط بعالم الشهادة، فهي حقوق مدنية للأفراد والمجتمعات ولا
شأن لها بحياتهم الروحية ومصيرهم الأخروي، ومن ثم فإن الجزاءات التي وضعت لمن
ينتهكها عقوبات وضعية (غرامة، سجن) خلافاً للجزاءات الشرعية التي هي جزاءات بعضها
له طابع ديني وبعضها دنيوي.
والقوانين الوضعية في تصورها للحق -كما
يقول ضياء الدين الريس- تجعل قاعدتها الرئيسة فكرة «الأحقية»، أو «الامتلاك»،
بينما تهدف الشريعة الإسلامية إلى جعل قاعدتها الأولى فكرة «الوجوبية» والالتزام
أكثر مما تجعل فكرة «الحقية» والاستحواذ، فالإنسان في عرف الشرع لا يُنظر إليه
أولاً على أنه صاحب حق، ولكن ينظر إليه على أنه متحمل مسؤولية أو ملزم بأداء واجب،
وهو لا يلغي الحق وإنما يضع عليه قيوداً لمصلحة الجماعة والفرد؛ ولذلك ذهب الفقهاء
إلى أن كل حق يقابله واجب.
الخلاصة، الحقوق في الإسلام ذات مصدر
إلهي وهي حقوق مقيدة وليست مطلقة، ولذلك فليس الإنسان حراً في استعمال حقوقه كيف
يشاء وقتما يشاء، وإنما هو محوط في ذلك بقيود شديدة ومسؤولية جسيمة، وهي ذات وظائف
اجتماعية ولا تهدف إلى المتعة الفردية.
اقرأ
أيضاً:
حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.. نظرة غربية