الخفافيش الاقتصادية.. إطلاق المارد من القمقم!
يتحدثون اليوم
عن النظام العالمي الجديد، كما لو كان جديداً، أين الجديد؟ عندما يحاول شخص قوي
ليس لديه كوابح معنوية متينة، ولا قيم أخلاقية واضحة، إلا في حدود ضيقة لعلها حدود
الحي الذي يهيمن عليه، أو ما يعرف بمنطقة نفوذه عندما يحاول جباية خراجها لمصلحته
هو بالدرجة الأولى! أظن أن مثل هذا الشخص ومثل هذه المحاولة لهما صفة القدم، وإذا
وضعنا الدولة القوية مكان الشخص القوي تبقى النتيجة واحدة مع تغيير في التسمية.
ثم ما الدولة التي تمتعت بالقوة المادية والعسكرية ولم تحاول جباية أموال العالم الواقع بمتناول يدها؟ لعل القسم الأعظم من التاريخ يقوم على سرد محاولات الدول العظمى للاستئثار بأموال العالم ومراحل نجاحها وفشلها في محاولاتها هذه.
والمحاولة التي
تجري أمام أعيننا ونشاهدها أو نسمع بها عبر وسائط نقل المعلومات المضللة غالباً من
أجل توجيه الأموال الشاردة في العالم إلى وجهة معينة، ليست جديدة، مع أنها تشكل
سمة النظام العالمي الراهن.
لعل الجديد في
الموضوع هو كثافة وسائط الإعلام المساهمة في العملية، أو لعله المستوى الرفيع من
النفاق الذي بلغه أصحاب المحاولة ومن لف لفهم، أو هذا الأسلوب الحديث في تركيب
الرواية وفي إخراجها وعرضها على الجمهور.
أي جديد في
الأمر حين تتراكم أموال كثيرة لدى كيانات هشة وضعيفة فيأتي كيان أكثر قوة ويستولي
عليها؟!
أي جديد في
موضوع تزوير الواقعة التاريخية لتبرير منطق الثري القوي؟!
في عالم الغرب كما صنعه فلاسفته تقريباً تؤدي بنا هذه المجتمعات إلى الكارثة، ولم تبذل الجهود اللازمة لتعلم التفكير الموضوعي، بيد أن أصواتاً غربية تسمع بين الفينة والأخرى تحاول إعلان اعتراضها على ما يجري وتحاول أن تفكر بموضوعية.
إن الاقتصاد
بمعناه الشامل وليس بمعناه المادي فقط، هو من الوسائل المعينة على تفسير كثير من
حوادث التاريخ.
فالأفكار
الأساسية قديمة إذ النهب العالمي يتم بأكثر الطرق فعالية، وأسرعها وأقدرها على حشد
أضخم كمية من الأموال في أقل عدد من الجيوب أو الصناديق، الجديد نسبياً هي الطرق
الفاعلة يدعمها الحاسوب والإنترنت العظيم أسطورة القرن كما يرى علماء الحواسيب والإنترنت.
هذا إذا لم يظهر
فيروس خفي يلتهم ذاكرات هذه الحواسيب مثل الذي أقض مضاجع الحاسوبيين منذ زمن مضى.
وحقيقة الأمر،
فإن الجري وراء المال والسعي وراء المنفعة فقط والانفلات من القواعد المنظمة لأي
نشاط اقتصادي على هذه الأرض؛ أي تناسي البعد الاجتماعي للعملية الاقتصادية خطر
عظيم.
أليس بالمستطاع
اليوم وبعملية حاسوبية يسيرة نهب مدخرات كبار المودعين وصغارهم من خلال معدلات
الحسم ومعدلات الصرف؟ أليس بالمستطاع اليوم وعبر تحالف علني أو سري دائم أو مؤقت
بين بعض بيوتات توظيف الأموال في وول ستريت إجبار الناس على الانصياع الى إرادة
المال.
ألسنا اليوم
رهائن إرادة مجموعة مختارة من عولمي هذا القرن الذين اكتشفوا كيفية الاستيلاء على
ملايين الدولارات في دقائق أو ساعات؟ هل دخلنا عصر الحكومة العالمية بعد أن تمت
عملية تمركز الثروة وحصرها في أضيق نطاق؟
إن المادية الغربية من رأسمالية أو ماركسية أوصلت الاقتصاد إلى أزمة خطيرة ومعه العالم كله، والطريق المسدودة التي سارت فيها كل منهما، جعلت مسألة تركز مبالغ خيالية من المال في أيد محدودة وبتصرف عدد قليل من الخفافيش الاقتصادية أمراً ممكناً.
في هذا السياق، يلخص ويليام غريدر أحوال النظام العالمي الاقتصادي الحديث بقوله: لقد اعتبر المال مؤثراً محايداً في التجارة، ولكنه غدا سيدها المريض بالعُصاب.
إن مبدأ
العقلانية الذي تُبنى عليه التحليلات الاقتصادية التقليدية قد فر من السوق حيث
انتقلنا بسرعة من الغبطة إلى الخوف.
يقول تشارلز
كينديلبرجر: «عندما يتصرف الجميع بجنون؛ يغدو السلوك العقلاني أن نكون أيضاً من
المجانين!»، جاء ذلك في دراسته الشهيرة عن الذعر والعادات المستهجنة والأزمات.
وقد وقعت
الحكومات اليوم والمصرفيون في حركة هروب إلى الأمام، وكما هي العادة في الاقتصاد،
فالقرارات المتخذة من أجل حل معضلة معينة تؤدي إلى معضلة أخرى أكثر منها خطراً.
إن قمة السخرية
تكمن في أن الدعوة إلى نظام اقتصادي جديد أطلقتها في عام 1973م حركة عدم الانحياز
الفقيرة التي تعتبر اليوم بحكم المتوفاة، إذ كان النظام المقترح يهدف إلى تيسير
عملية تصنيع العالم الثالث واستيعابه في التجارة العالمية على قدم المساواة مع
البلدان النامية، وكان الهدف الأكبر للوصول إلى تلك الغاية يمر عبر إعادة تقويم
أسعار المواد الأولية.
ففي بداية
السبعينيات، جرى اطلاق نداء، أوقفوا النماء، بعد أن تكهن خبراء نادي روما بشح
المواد الأولية وبتفاقم التلوث بصورة تنذر بكارثة وذلك في آن معاً.
وللأسف، فقد
كانوا على خطأ، 20 عاماً أو أكثر انصرمت غيّر فيها علماء الاقتصاد آراءهم، والذي
يقلقهم الآن ليس نشاط النماء، بل تراخيه.
فقد نشر مركز
الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية تقريره السنوي وفيه أبدى قلقه من رداءة
الاحتمالات العالمية؛ إذ سوف تزداد المشكلات التي يعاني منها كوكبنا خطورة إذا لم
يحدث ما يجعل الآلة الاقتصادية تعاود انطلاقتها.
ولذا، حذّر
أنطون بريندر، مدير المركز، من أننا سنجتاز مرحلة خطرة إذا لم نبذل جهوداً لفتح
أسواقنا لاقتصاد دول الشرق ودول الجنوب التي تعاني من المصاعب، فإننا نخاطر برؤية
هجرة كثيرة نحو البلدان الغنية الصناعية.
والمشكلة أن
الأثرياء يزدادون ثراءً، والفقراء يزدادون فقراً، وللأسف فسوف تزداد الهوة بين
بلدان الشمال وبلدان الجنوب في السنوات القادمة، وسوف تبدو الفوارق بين الأثرياء والفقراء
في نهاية المطاف أمراً لا يمكن احتماله.
وهكذا يكتشف
العالم بعد عدة أعوام من الغبطة أنهم كانوا يلعبون لعبة إطلاق المارد من القمقم
حيث يتعذر السيطرة عليه بعد ذلك.
كتب محرر «وول
ستريت جورنال» مرة قائلاً: عالم المال هو مجموعة من الكائنات الحية وغير الحية
تعيش في بيئة واحدة، تعدل نفسها بحذق أو تتغير فجأة تبعاً لسير الأحداث العالمية.
ختاماً أقول:
إنه لما اكتشف عالم المال فداحة الأضرار أعلن الناطقون باسمه مؤكدين نهاية عربدة
المضاربات التعيسة التي أتاحت للعديد من الخفافيش امتصاص الدماء حتى التخمة.
ألسنا نشهد عصر
إعادة رسملة الشركات؟! وبالطبع فإن المتحكمين هم خفافيش الاقتصاد!
______________________
للتواصل: zrommany3@gmail.com.