الهيمنة على الاقتصاد العالمي واحتمالات تغير خريطة القوى العالمية

اتسم القرن العشرين بسيطرة الغرب وأمريكا على المقدرات الاقتصادية للعالم، وبخاصة أن أكثر من النصف الأول من القرن العشرين، شهد تغلغل ظاهرة الاستعمار الغربي للعديد من الدول النامية، وما زالت جريمة نهب ثروات الدول النامية من قبل الغرب تحتاج إلى تعويضات مستحقة.
وفي مطلع التسعينيات من القرن العشرين، برز النظام العالمي أحادي القطبية، الذي مثلت فيه السيطرة الاقتصادية ملمحاً مهماً، عبر منظومة العولمة، واعتمد نظام العولمة بقيادة أمريكا على عدة مقومات، أولها التفرد التكنولوجي لأمريكا والغرب، والتراكم الرأسمالي عبر امتلاك وتحقيق أكبر ناتج محلي عالمي، وكذلك السيطرة على أداء المؤسسات المالية العالمية، بعد أن تم إنشاء منظمة التجارة العالمية، بجانب البنك والصندوق الدوليين.
وتمتلك أمريكا ناتجاً محلياً إجمالياً هو الأعلى بين دول العالم، فقد بلغ 27.7 تريليون دولار بنهاية عام 2023م، ويأتي تكتل الاتحاد الأوروبي بعدها بنحو 18.5 تريليون دولار، بينما تأتي الصين في المرتبة الثالثة بنحو 17.7 تريليون دولار.
ما مدى تأثير أداء الدول الصاعدة وعلى رأسها الصين في كسر الاحتكار الأمريكي الغربي للاقتصاد العالمي؟
أما بالنسبة للتجارة السلعية، فيأتي الاتحاد الأوروبي في المقدمة بقيمة 14.2 تريليون دولار، ثم الصين في المرتبة الثانية 5.8 تريليونات دولار، ثم أمريكا بـ5.1 تريليونات دولار، وكثيراً ما ينظر لأداء أمريكا والاتحاد الأوروبي على أنه يعضد بعضه بعضاً، ويمثل كتلة في مواجهة الدول النامية والصاعدة.
مبررات التغيير
إن ما مر به العالم منذ مطلع الألفية الثالثة على الصعيد الاقتصادي يجعلنا أمام مشهد مختلف، حيث مر الاقتصاد العالمي بأزمات مالية عنيفة، على رأسها أزمة عام 2008م، التي كانت الأوضاع المالية بأمريكا سبباً رئيساً فيها؛ ما جعل أعضاء بمجموعة العشرين، وممثلين للدول الصاعدة، يطالبون بإعادة النظر في قواعد النظام الاقتصادي والمالي العالمي، والبحث عن عملة بخلاف الدولار تتيح فرصة أكبر للاستقرار المالي العالمي.
كما طالبت الدول الصاعدة وبعض الدول الأوروبية إعادة النظر في دور المؤسسات الدولية؛ بما يجعلها على قدم المساواة، بين الدول النامية والمتقدمة، وتبني سياسات تلبي التغير الحاصل من صعود للدول الصاعدة، يقتضي تغيير قواعد النظام السائد.
وجرت في نهر الاقتصاد العالمي مياه كثيرة، تتعلق بصعود ملموس للدول الصاعدة، ووجود مؤسسات وكيانات ينظر إليها البعض على أنها في طور تقديم البديل لأمريكا والغرب، أو أنها تسعى لدور من شأنه إحداث تغير في تركيبة النظام الاقتصادي العالمي، ليكون نظاماً متعدد الأقطاب.
فقد رأينا بنك البنية التحتية الذي أنشأته الصين بمساعدة تجمع «البريكس»، وسعت لعضويته الكثير من الدول النامية والصاعدة، بل طلبت عضويته بعض الدول الغربية، كما نشط بشكل كبير مشروع طريق الحرير من قبل الصين بتنفيذ مشروعات البنية الأساسية في بعض البلدان النامية، واعتُمد اليوان الصيني كعملة دولية للتسويات المالية وتكوين الاحتياطيات النقدية في عام 2016م.
إلا أن الملمح الأبرز في أداء الدول الصاعدة والنامية هو خروج تكتل «بريكس» عبر قممه الدورية، وأجندة موضوعاته التي على رأسها مواجهة الاحتكار الأمريكي والغربي للاقتصاد والتجارة.
الأداء الصيني تميز بإحراز تقدم بمجال التكنولوجيا الذي يعطي الأمل في إمكانية امتلاك ناصيتها بعيداً عن الغرب
والسؤال المطروح منذ عدة سنوات، وبخاصة بعد المواجهات الأمريكية مع الصين في مجال التجارة والتكنولوجيا على وجه التحديد، هو: ما مدى تأثير تطور أداء الدول الصاعدة وعلى رأسها الصين في كسر الاحتكار الأمريكي الغربي للاقتصاد العالمي؟
إمكانيات وتحديات التغيير
لا تخطئ العين المنافسة الشديدة بين أمريكا والصين على وجه التحديد، وبخاصة في مجالي الاقتصاد والتكنولوجيا، ولا يمكن تفسير ما اتخذته أمريكا من قرارات وإجراءات تجاه الصين، منذ ولاية ترمب الأولى، إلا أن ثمة مخاوف من تجاوز الصين لأمريكا والتفوق عليها اقتصادياً.
لذلك، تم فرض الرسوم الجمركية، والتهديد بسحب الاستثمارات الأمريكية من الصين، وكذلك تم حجب التكنولوجيا عن الصين، ليس فقط من قبل أمريكا، ولكن من قبل الاتحاد الأوروبي واليابان كذلك.
إلا أن الأداء الصيني وإن كان منفرداً، ولا يحظى بحالة دعم من باقي الدول، تميز بإحراز تقدم في مجال التكنولوجيا، يعطي الأمل في إمكانية امتلاك ناصية التكنولوجيا بعيداً عن الغرب وأمريكا، وظهر ذلك جلياً عبر بعض برامج الذكاء الاصطناعي، ليس فقط من حيث الإمكانات الفنية، ولكن الأهم هو التكلفة شديدة التواضع بما يُعلن من قبل أمريكا، وهو ما يعني أن أمريكا والغرب حصلا على عوائد مبالغ فيها على مدار أكثر من قرن نظير ما قدموه من تكنولوجيا للعالم.
والمجال الآخر الذي يجب أن تجتهد فيه الصين والدول الصاعدة، تجاه أمريكا، هو التخلص من السيطرة على مقدرات السياسة المالية والنقدية، سواء فيما يتعلق بهيمنة الدولار على عمليات التجارة والتسويات المالية عالمياً، أو سعر الفائدة الأمريكي الذي يحدد الأوضاع النقدية والمالية في كافة بلاد العالم.
توسيط العملات المحلية في تسوية التجارة البينية لدول «البريكس» أو مع دول أخرى يخفف من حدة سيطرة الدولار
وثمة خطوات اتخذتها دول «البريكس» منذ أكثر من عقد، لمواجهة احتكار أمريكا للنظام المالي والنقدي العالمي، منها توسيط العملات المحلية في تسوية التجارة البينية لدول «البريكس»، أو مع دول أخرى؛ ما يخفف من حدة سيطرة الدولار، وكذلك طرح إمكانية وجود عملة بديلة له، وهذه الخطوة الأخيرة لها أهمية كبيرة، تظهر من خلال رد الفعل غير المتزن من قبل ترمب، بتهديده بفرض ضرائب جمركية بنسبة 100% على الدول التي تستبدل الدولار في تعاملاتها الخارجية.
وتحتاج الخطوات المتخذة من قبل الدول الصاعدة والنامية، سواء في تجمع «بريكس» أو غيره، إلى حالة من التنسيق، والتكامل فيما بينها، ولعل عودة ترمب كرئيس لأمريكا تمهد الطريق بشكل أفضل لبلورة جبهة أكبر ضد أمريكا، وبخاصة أن تصرفات ترمب وقراراته تستهدف الاتحاد الأوروبي كذلك، وهو ما قد يمثل نقلة تاريخية في طبيعة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا، بأن ينحاز الاتحاد الأوروبي للدول الصاعدة وتجمع «بريكس».
فقواعد العلاقات الدولية قائمة على المصالح، وتقوى تلك العلاقات بشمول أطراف العلاقة بمصالح متساوية أو متقاربة، وهو ما لا يمكن الوصول إليه في ظل قرارات ترمب الرامية إلى تأجيج الحرب التجارية، وفرض أدوات استعمارية في العلاقات الاقتصادية والتجارية مع باقي دول العالم.
وإذا ما نجحت الدول الصاعدة والنامية، في زيادة التعاملات التجارية والمالية، بعيداً عن أمريكا والغرب، فسيؤدي هذا بدوره إلى عزلة أمريكا والغرب، ويزيد من حصة الدول الصاعدة والنامية من مقدرات الاقتصاد العالمي، وفي غضون عقود قليلة، يمكننا الوصول إلى نظام اقتصادي متعدد الأقطاب.