الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (2)

ستظلّ شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم الشخصية الأعظم في تاريخ البشـرية جمعاء؛ فإنما يقاس ذلك بمقدار نجاح الشخصية على مستويات الحياة كلها، وبمقدار تأثيره العميق في شخصية من جاوروه وخالطوه.

إنّ تربية النبيّ صلى الله عليه وسلم لأطفال المسلمين هي التربية الأصلح والأنجع والأنسب لكل زمان ومكان، «وقد أولت تربية الرّسول صلى الله عليه وسلم اهتمامها لبناء شخصيّة الطفل بناءً متكاملاً متوازنًا ومتطورًا من جميع الوجوه، جسميًّا وعاطفيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا وخُلُقيًّا وجماليًّا وإنسانيًا، حتى يصبح هذا الإنسان بشخصيّته المنسجمة لبنةً حيّةً وفعّالةً في بناء مجتمعه»(1)،

ونستعرِض عددًا من مزايا الهدي النبوي في تربية الأطفال، التي تعين على حُسْن التربية والتغيير، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين) (آل عمران: 164)، فهي تربية ربانية، لها مصدر لا يعتريه النقض أو النقص،

ومن بين سمات طريقته ومنهجه صلى الله عليه وسلم في التربية، ما يلي:

أولاً: تعليم الآباء والأمهات الأخذ بالأسباب في إنتاج النشء المميّز:

من بين وسائل الأخذ بالأسباب في إنتاج وإخراج جيل يصلح لحمل الأمانة والرسالة وفقًا لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته الكريمة، ما يأتي:

1- دعوة النبيّ المقبلين على الزواج وأولياء الفتيات إلى ضرورة حُسْن الاختيار لشـريك الحياة ورفيق الدّرب، فقد جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ»(2)،

2- الوصية بالدعاء عند الجماع بين الزوجين؛ تفاديًا لتسلّط الشيطان على الطفل عند الولادة وفي رحاب حياته؛ ففي الحديث: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرّهُ»(3)،

3- العناية بالمولود من أول لحظة يأتي فيها إلى الدنيا، كمثل الأذان في أذنه، والتحنيك، واختيار الاسم الجميل، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يُحوّل الاسم السيئ إلى اسم حسن، وكان يقيم العقيقة شكرًا لنعمة المولود، وأمر أصحابه بذلك وحثَّهُم عليه،

4- التأكيد على أنَّ صلاح الذرية سبب من أسباب استمرار عمل العبد الصالح بعد موته، وهو في قبره؛ ففي الحديث عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه»(4).

ثانيًا: أبوّته صلى الله عليه وسلم الحانية:

كان النبيّ للأولاد كالوالد الناصح المحب لأبنائه، يرجو لهم الخير ويحرص على تعليمهم ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، ففي حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «‏إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ»(5).


اقرأ أيضاً: أسس المنهج النبوي في التربية الوالدية (1)


وقد كان صلى الله عليه وسلم في منهجه التربوي يرفق بمن يربيه ويعلّمه، حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يقدّر ظروف الأولاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فساند الصبيان نفسيًّا وأيقظ فيهم اليقين في ربهم الكبير المتعال، وعاونهم اجتماعياً بمواساة من فقد منهم أباه أو أحد أقاربه، ووقف مع المتعسّـر منهم ماديًّا، وعلّم من امتلك رصيدًا بسيطا في العلم، سواء في التعبد أو السلوك على السواء؛ تحقيقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ»(6).

ثالثًا: مرافقة العلم للتربية:

فلا شكّ أن المُعَلِّم الحقيقي هو من ارتبط بالتربية قبل تعليم الأولاد، والأجمل أن يكون معلمًا بالسلوك التربوي، ولقد كان النبيّ مربيًا معلمًا بسلوكه قبل لفظه وكلامه، فقام يشجّع الصبيان على التعلّم وبهمّة عالية، وحفّز الهمم بالكلمات المشجّعة على التعليم، وقد ورد في الحديث: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»(7).

وفي كلام ابن مسعود، ما يؤكّد على هذا السلوك التربوي؛ ففي الحديث عن ابن مسعود -حين كان راعيًا لغنم عُقْبة بن أبي مُعَيْط- وقد التقاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطلب ابن مسعود منه قائلاً: يا رسول الله، علّمني من هذاَ القول (القرآن الكريم)، يقول ابن مسعود: فمسح  الرسول صلى الله عليه وسلم رأسي، وقال: «يرحمك الله، فإنك غُلَيَّم معَلَّم»(8)، وفي لفظ آخر يعبّر عن أثر هذه التربية في نفسية ابن مسعود، وكيف أنّه تحول بهمّة عالية إلى التعلّم، يقول ابن مسعود: قلت: علِّمني من هذا القرآن، قال: «إنك غلام مُعَلَّم»، قال: فأخذت مِن فِيهِ سبعين سورة(9).

ولما تخرّج هذا المتعلّم -ابن مسعود- من مدرسة المُرَبِّي صلى الله عليه وسلم، إذ به يطبّق ما تعلّمه من تشجيع تربويّ وتحفيز للمتعلّمين، فكان إذا رأى طلاب العلم يرحّب بهم فيقول: «مَرْحَبًا بِكُمْ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَمَصَابِيحَ الظُّلْمَةِ، خُلْقَانَ الثِّيَابِ، جُدُدَ الْقُلُوبِ»(10)؛ فيزدادون نشاطًا وهمّة عالية في الطلب والإلقاء.

رابعًا: شمولية تربيته وتوازنها:

عني صلى الله عليه وسلم بكل جوانب التربية في حياة الأولاد، بالتربية العقدية والروحيَّة، والتعبدية، والبدنية، والصحية، والنفسيّة، والعلمية والثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، والدعوية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وهكذا كانت تربيته شاملة متكاملة.


اقرأ أيضاً: التربية بالقدوة.. بين المدارسة والممارسة



كما أنها كانت تربية متوازنة تجمع بين العقيدة والشريعة والأخلاق، متوازنة بين احتياجات الروح واحتياجات الجسد، فهي تربية لا تغلِّب طرفًا على طرف، فكما كان يربي على العقيدة والعبادة، كان يربِّي على المرح والترويح واللعب مع الصبيان.

خامسًا: الصبر على الأولاد والمُتعلِّمين:

فلا يُنفِذ غضبه على من أخطأ في الكلام أو التصرف من الصبيان، فلقد ثبت في السنة المباركة أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على جفوة من يربيه ويعلّمه، يصبر إذا أخطأ في تعبيراته اللفظية، أو تصـرفاته السلوكية، وقد ورد في وصفه مثل ذلك، كما في حديث سيدنا عليّ بن أبي طالب الطويل؛ وفيـه: «.. وَلا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلا يَنْتَصِـرُ لَهَا، إِذَا أَشَارَ، أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فضـرب بِرَاحَتِهِ الْيُمْنَى بَاطِن إِبْهَامِهِ الْيُسْـرَى، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، وَإِذَا فَرِحَ غَضَّ طَرَفَهُ جَلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ..  وكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَائِمَ الْبِشْـرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيَّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا سَخَّابٍ وَلا فَحَّاشٍ وَلا عَيَّابٍ وَلا مَدَّاحٍ».





____________________

(1) معجزة الإسلام التربوية: محمد أحمد السيد، ص29، 30، ط2/ 1982م، دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع- الكويت.

(2) سنن ابن ماجه، أبواب النكاح، بَابُ الأَكْفَاءِ، حديث رقم (1968)، ج3، ص141،142، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده، (انظر: سنن ابن ماجه: لأبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني (المُتَوَفَّى: 273هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وآخرين، ط1/ 1430هـ= 2009م، دار الرسالة العالمية- بيروت)،

(3) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاعِ، حديث رقم (141).

(4) صحيح مسلم: كتاب الوصية، بَابُ مَا يَلْحَقُ الإِنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، حديث رقم (1631)،

(5) سنن أبي داود: (المُتَوَفَّى: 275هـ)، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط، محَمَّد كامِل قره بللي، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند الحاجة، حديث رقم (8) وهو حديث قوي الإسناد كما قال المحقق في التحقيق، ط1/ 1430هـ= 2009م، دار الرسالة العالمية، بيروت، والحديث له أصل في صحيح مسلم، وفي سنن ابن ماجه، وعند أحمد في المسند،

(6)  أخرجه مسلم عن جرير: كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالآدَابِ، بَابُ فَضْلِ الرِّفْقِ، حديث رقم (2592)،

(7)  صحيح مسلم: كتاب الطلاق، بَابُ بَيَانِ أَنَّ تَخْيِيرَ امْرَأَتِهِ لا يَكُونُ طَلَاقًا إِلا بِالنِّيَّةِ، حديث رقم (1478)،

(8) مسند الإمام أحمد بن حنبل (المُتَوَفَّى: 241هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وآخرون، ومن مسند بني هاشم، مسند عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، حديث رقم (3598) ط1/ 1421هـ= 2001م، مؤسسة الرسالة- بيروت، وهو حديث صحيح.

(9) مسند الإمام أحمد: حديث رقم (3599)، وقال عنه في التحقيق: (إسناده صحيح).

(10)  أخرجه البيهقي في شُعب الإيمان: فصل في فضل العلم وشرف مقداره، رقم (1600)، ج3، ص242 (ينظر: شعب الإيمان: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المُتَوَفَّى: 458هـ)، ط1/ 1423هـ= 2003م، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند).



الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة