السودان.. بين صراع النخب العسكرية ومعاناة ملايين النازحين

الأزمة السودانية.. من الصراع إلى الكارثة

دخل الصراع في السودان عامه الثالث، متحولًا من صراع السيطرة على العاصمة إلى حرب متعددة الجبهات ومجزأة، تتميز بتصعيد إستراتيجي وعواقب إنسانية وخيمة، لقد بلغ الوضع الإنساني مستويات تاريخية وكارثية، حيث تأكد وجود المجاعة في عدة مناطق، ووصل عدد النازحين إلى أرقام هائلة، حيث تُشير التقارير الموثوقة إلى ارتكاب جرائم حرب واسعة النطاق وجرائم ضد الإنسانية، مع تركيز خاص على الانتهاكات الممنهجة التي تقوم بها مليشيات «الدعم السريع».

وبالرغم من تزايد الضغوط الدولية، لا تزال جهود الوساطة مجزأة، وإن كانت هناك تحركات حديثة لتوحيدها، ومع ذلك، فإن عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى الأطراف المتحاربة يُعَدّ العائق الأكبر أمام تحقيق أي حل، حيث إن دورة الإفلات من العقاب المتجذرة في تاريخ السودان تواصل تغذية الأعمال الوحشية الحالية، ولا يمكن تحقيق أي تقدم ملموس نحو السلام دون مساءلة حقيقية ودبلوماسية دولية منسقة.

من السيطرة البرية إلى التصعيد الجوي

دخل الصراع الذي اندلع في 15 أبريل 2023م عامه الثالث، مع استمرار العمليات القتالية المكثفة في مناطق إستراتيجية رئيسة، حيث تجاوز الصراع مجرد السيطرة على العاصمة، فبينما كانت الحرب تتركز في بدايتها على الخرطوم ومحيطها، توسعت الآن لتشمل صراعاً على السيطرة على المراكز الإقليمية وطرق الإمداد الحيوية، فبعد سيطرة مليشيات «الدعم السريع» على جميع ولايات دارفور الخمس بحلول ديسمبر 2024م، استمرت الاشتباكات العنيفة في كردفان حيث سيطرت المليشيات على مدينة إستراتيجية.

ويُعدّ ظهور الطائرات المسيرة بعيدة المدى بمثابة عامل جديد ومغير لقواعد اللعبة في الصراع، فقد أظهرت صور وتحليلات وجود 13 طائرة مسيرة انتحارية من طراز «دلتا وينغ» بالقرب من مطار نيالا في دارفور، وتصل هذه الطائرات إلى مدى يبلغ ألفي كيلومتر؛ ما يمكنها من ضرب أي هدف داخل السودان، حيث إن هذا التطور ليس مجرد نقلة تكتيكية، بل هو تحول إستراتيجي يمحو التفوق الجوي التقليدي للجيش السوداني، فبعدما فقدت قوات «الدعم السريع» أراضي في وسط وشرق البلاد، لجأت إلى إستراتيجية جديدة قائمة على الضربات الجوية المكثفة.

النزوح القسري ومفارقة العودة

بلغت أزمة النزوح أبعاداً غير مسبوقة، حيث نزح أكثر من 14 مليون شخص من منازلهم، ووصل العدد إلى 15 مليوناً وفقاً لتقارير أخرى، وتشير أرقام المنظمة الدولية للهجرة إلى نزوح 12.1 مليون شخص داخلياً حتى يوليو 2025م، وتفيد المنظمة بأن واحداً من كل 4 سودانيين بات نازحاً قسراً.

وبشكل يثير الدهشة، أعلنت الأمم المتحدة عودة 1.3 مليون نازح سوداني إلى ديارهم، معظمهم إلى ولايات الخرطوم وسنار والجزيرة المتضررة بشدة، وتُعزى هذه العودة إلى أن الظروف في مخيمات النزوح أصبحت لا تُطاق؛ ما يضطر الناس للعودة إلى مناطق مدمرة وخطرة كآلية للبقاء.

شبح المجاعة يلوح في الأفق

وصل انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات تاريخية، حيث يعاني أكثر من نصف السكان من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وقد تأكدت ظروف المجاعة فيما لا يقل عن 5 مناطق، بما في ذلك مخيم زمزم في شمال دارفور، ويتفاقم الوضع مع التوقعات بأن أكثر من 3.2 ملايين طفل دون سن الخامسة سيواجهون سوء التغذية الحاد في عام 2025م.

إن الأزمة الغذائية ليست نتيجة ثانوية للنزاع، بل هي تكتيك مقصود، فقد ذكر خبراء الأمم المتحدة استخدام التجويع كسلاح حرب، ويعدّ الحرمان الممنهج من الغذاء والدواء، إلى جانب عرقلة المساعدات الإنسانية، جزءاً من إستراتيجية متعمدة تهدف إلى حرمان المدنيين من مقومات البقاء، وقد يرقى ذلك إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية.

انهيار الخدمات الأساسية وإعاقة الإغاثة

تسبب الصراع في انهيار تام للخدمات الأساسية، ففي المناطق الأكثر تضرراً، لا يزال مرفق صحي واحد فقط من كل 4 مرافق يعمل، كما أن المدارس والجامعات تعطلت أو دُمرت، وتتعرض جهود الإغاثة الإنسانية للخطر، حيث تم استهداف قوافل المساعدات، وقتل أو إصابة أكثر من 84 من عمال الإغاثة السودانيين بين أبريل 2023 وأبريل 2025م.

جرائم «الدعم السريع»

وقد وثقت العديد من الهيئات الدولية، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة، ومنظمة «هيومن رايتس ووتش»، سلسلة من الجرائم الممنهجة التي ارتكبتها مليشيات «الدعم السريع»، مثل التطهير العرقي والمذابح في غرب دارفور، كما استهدفت بشكل متعمد المجتمعات غير العربية، ووثقت تقارير مقتل مئات المدنيين في الفاشر، ومذبحة ذهب ضحيتها ما بين 300 و1500 مدني، وأصبح العنف الجنسي سمة بارزة في الحرب، ووثقت البعثة الأممية حالات اغتصاب جماعي واسترقاق جنسي، وغالباً ما استهدفت نساء وفتيات لا تتجاوز أعمارهن 12 عاماً.

جهود الوساطة والحلول

من التحديات الرئيسة في حل الأزمة وجود منابر وساطة متعددة ومتنافسة، فمحادثات جدة والمبادرات التي تقودها «إيغاد» لم تنجح في وقف القتال، ويعزى فشلها إلى تعددها وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى الأطراف المتحاربة.

توصيات بعثة الأمم المتحدة لحل الأزمة السودانية

بالإشارة إلى تقرير بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، أصدرت البعثة توصيات واضحة لأطراف النزاع والمجتمع الدولي، تتركز على مسارين رئيسين، هما:

1- توصيات للمجتمع الدولي:

  • فرض حظر أسلحة منسق: يجب على المجتمع الدولي أن يفرض حظراً صارماً لوقف تدفق الأسلحة إلى طرفي النزاع.
  • زيادة التمويل الإنساني: يجب على المجتمع الدولي الوفاء بالتزاماته المالية وزيادتها لإنقاذ الاستجابة الإنسانية.
  • دعم آليات المساءلة: يجب دعم وتمويل بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق والمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم.

2- توصيات لأصحاب المصلحة السودانيين:

  • تبني حل بقيادة سودانية: يجب أن يكون الحل النهائي ملكاً للشعب السوداني، وأن يتم التوصل إليه عبر حوار شامل.
  • إعادة تأكيد دور المدنيين: يجب إعادة تأسيس حكومة مدنية انتقالية بفاعلية، لضمان مستقبل مستقر للبلاد.

توضح هذه التوصيات أن حل الأزمة يتطلب جهوداً متكاملة من الداخل والخارج، تجمع بين الضغط الدولي والحلول الوطنية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة