العناد عند الأطفال.. كيف عالجه الوحي؟

رقية محمد

19 أغسطس 2025

312

في زمن تتعالى فيه صرخات الأمهات، وتزداد فيه حيرة الآباء أمام عناد أطفالهم، يبحث الجميع عن حلول تربوية تنقذ تلك العلاقة دون كسر شخصية الطفل.

وقد جاء القرآن الكريم والسُّنة النبوية ليضعا منهجًا متكاملًا بشأن هذا السلوك يتصف بالحكمة والرحمة، بداية من فهم السلوك وأسبابه وحتى علاجه العلاج الناجع، وها هي كلمات في ذلك.

أولاً: فهم نفسية الطفل (مراعاة الفطرة):

أعلمَنا الإسلام أن الطفل يولد على الفطرة، في إشارة لاعتبار أثر البيئة وأفكار الأبوين وسلوكياتهما على تشكيل أفكار الأولاد وسلوكياتهم، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء»(1).

فالطفل يُولد نقيًا، قلبه قابل لقبول كل خير، وكل سلوك غير مرغوب فيه يظهر عليه؛ فهو شيء غير أصيل فيه، وقابل للتوجيه لا للعقاب فقط، وهذه هي الفكرة الرئيسة التي تمثل قاعدة تغيير لأي سلوك غير صالح يقع فيه الطفل.

ثانياً: فهم أسباب العناد:

1- طبيعة المرحلة العمرية:

العناد الطبيعي يكون جزءًا من مراحل النمو وتطور شخصية الطفل في المراحل العمرية المختلفة، ويُمر بسلام إذا ما تم التعامل معه بحكمة وحب فمثلاً:

- مرحلة الطفولة المبكرة (2 – 4 سنوات): العناد هنا طبيعي ومتوقع، ويُعرف بـ«عناد الاستقلال»، فالطفل يكتشف أنه كائن مستقل عن أمه، فيستخدم «لا» كثيرًا كوسيلة لإثبات ذاته، وغالبًا لا يكون هدفه التحدي؛ بل التجريب والسيطرة على بيئته، والعناد في هذه المرحلة لا يحتاج إلى قمع، بل إلى صبر وتوجيه ناعم.

- مرحلة الطفولة الأولى (4 – 6 سنوات): يبدأ الطفل في اختبار حدود القواعد والقوانين لدى والديه، حيث يُظهر نوعًا من العناد الواعي، لكنه ما زال يتعلم الفرق بين المسموح والممنوع، وقد يعاند أحيانًا لجذب الانتباه أو للشعور بالقوة، هنا يكون من المفيد استخدام أسلوب التدرج والعقاب المنطقي.

- مرحلة الطفولة المتوسطة (6 – 9 سنوات): العناد هنا يكون أكثر «تفكيرًا» من ذي قبل، فالطفل قد يعاند بسبب الغيرة، أو الدفاع عن رأيه، أو تقليد الكبار، وبسبب بدأ تكون مفاهيم مثل العدالة وأمثالها؛ لذا فمن المهم للغاية إقامة الحوار مع الطفل، وشرح الأسباب، مع الثبات في أسلوب التربية.

- مرحلة ما قبل المراهقة (9 – 12 سنة): العناد يأخذ شكلاً جديدًا مثل الرفض الصامت، أو الجدل الطويل، وهنا يكون دافع العناد سعي الطفل إلى التحكم في قراراته، ويختبر الحدود بشكل أعقد، وقد يظهر عناده كـرغبة في الخصوصية، أو تحدٍّ غير مباشر؛ لذا الحل هنا يكون في منحه مساحة حوار، وتحميله وإلزامه ببعض المسؤولية تجاه اختياراته.

2- رد فعل لتسلط أو شدة الأهل:

كلما زاد الأهل في القسوة أو القمع؛ زاد الطفل في المقاومة، فالعناد هنا يصبح دفاعاً عن النفس ضد ما يعتبره قمعاً لشخصيته.

3- عدم وضوح القواعد أو التذبذب في التربية:

فعندما تكون القواعد غير ثابتة، كأن يُسمح للطفل بالشيء مرة ويُمنع منه أخرى، أو يوافق أحد الوالدين على شيء ويمنعه الآخر، وما يشبه ذلك؛ يبدأ الطفل في العناد لتحقيق أكبر مكسب ممكن من كسر الحدود.

4- جذب الانتباه:

بعض الأطفال يفضلون لفت الانتباه بالسلوك السيئ إذا لم يجدوا اهتماماً إيجابياً، فيصبح العناد وسيلتهم للحصول على اهتمام الوالدين.

5- الضغوط النفسية أو التغيرات في البيئة المحيطة:

للبيئة أثر عظيم على نفسية الطفل، فبعض التغيرات فيها مثل ولادة أخ جديد، أو الانتقال إلى مدرسة أو منزل جديد، أو انفصال الوالدين؛ قد يُظهر سلوك العناد كردّ فعل داخلي على فقدان الأمان، والخوف من هذه التغيرات.

6- التقليد السلبي:

الطفل مرآة لبيئته، فحين يرى الطفل أحد الوالدين أو المحيطين به يتذمر أو يعاند في الحياة اليومية، فيبدأ في نسخ هذا السلوك كطريقة تفاعل طبيعية.

7- وجود مكاسب خفية للعناد:

قد يقع المربي في فخ مكافأة العناد دون قصد، أو لرغبته إنهاء الموقف بأي شكل، فإذا حصل الطفل على ما يريد بعد العناد كمثل لعبة، حلويات، إعفاء من واجب أو من مسؤولية، سيتعلم أن العناد سلوك ناجح ومربح، فيدفعه ذلك أن يكرره كثيراً.

ثالثا: تعديل سلوك العناد:

1- اللين والرفق لتعديل السلوك:

يبين الكتاب والسُّنة أن اللين والرفق هما السبيل إلى كسب القلوب وتقويم السلوك، وعلى العكس؛ فإن العنف في التربية يُنتج عناداً أشد، ويميت الحس التربوي في الطفل، بينما اللين يفتح باب القبول والتجاوب، فالله تعالى قد أمر موسى، وهارون، عليهما السلام، أن يتحدثا إلى فرعون الطاغية برفق: (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44)، فإن كان هذا هو المنهج الإلهي في مخاطبة أعتى الجبابرة، فكيف ينبغي أن يكون خطابنا لأطفالنا؟!

2- احترام الطفل وإكرامه:

يعلّمنا القرآن أن الإنسان مكرم منذ ولادته، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وكتطبيق عملي لذلك التكريم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُجلّ الأطفال، ويستأذنهم، ويُشعرهم بقيمتهم، ففي الحديث عن سهل بن سعد الساعدي، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُتِيَ بشَرَابٍ، فَشَرِبَ وعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقالَ لِلْغُلَامِ: «إنْ أذِنْتَ لي أعْطَيْتُ هَؤُلَاءِ؟»، فَقالَ: ما كُنْتُ لِأُوثِرَ بنَصِيبِي مِنْكَ يا رَسولَ اللَّهِ أحَدًا، فَتَلَّهُ في يَدِهِ(2).

لذا، فيجب أن يُعامَل الطفل، رغم صغره، على أنه كائن محترم، له رأيه، وله كيانه، فلا يُنتزع منه حق من حقوقه بحجة أنه صغير، فإن الاحترام يولد الثقة ويُشعر الطفل بأنه مسموع وله حق التعبير بآداب الحوار؛ ما يقلل التمرد ويُغني الطفل عن سلوك العناد لإثبات الذات، لأنه لا يحتاج للصراخ أو الرفض ليُثبت نفسه.

3- الثبات على القواعد التربوية:

من أعظم ما يعين على تقويم سلوك العناد عند الأطفال ثبات المربي على المبادئ التربوية، وعدم التهاون فيها أمام صراخ الطفل أو بكائه أو إلحاحه، فالطفل أحياناً ما يصرّ على شيء لا يحتاجه، بل ليختبر صلابة القاعدة ومدى جدية المربي، فإن تراجع المربي مرة تحت ضغط الانفعال أو الإحراج؛ أدرك الطفل أن البكاء والضغط وسيلة ناجحة؛ فزاد عناده وتمرده.

وقد وجّه الوحي النبوي إلى ضرورة الالتزام بالمبادئ التربوية والقيم الإٍسلامية حتى في أبسط المواقف كوقت مداعبة الأبناء، كما جاء بالحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة»(3)، فالطفل إذا شعر أن القواعد لا تتغير حسب مزاج المربي؛ ازداد احتراماً لها، وقلّ عناده.

4- القصص والمواقف:

من أهم وسائل تعديل السلوك التربية بالقصص والمواقف الحياتية، فحينما يقص المربي على الطفل عاقبة العناد وكيف يعود على صاحبه بالخسران؛ كمثل فرعون، وقارون، وغيرهما، وعاقبة الامتثال لأوامر الله من فلاح ونجاح، فإن هذا يساعد نفسه على التزكية وتعديل تلك السلوكيات.

5- تنوع وسائل النصح والتهذيب:

النفس تمل، وتحتاج لتنوع وسائل النصح والتهذيب، واختيار الوقت المناسب من المربي؛ لأن الإكثار من المواعظ يؤدي إلى نفور النفس منها؛ فلا تحصل الفائدة المرجوة منها، وهذا ما تعلمه الصحابة من المدرسة النبوية، فعن عبدالله بن مسعود قال: كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا(4).

إن الطفل الذي يقول: «لا»؛ ليس دائماً متمرداً، بل هو روح تنمو، وشخصية تتكوّن، تحتاج إلى من يفهم رسائلها الخفية، فلا يكسرها أو يقمعها؛ بل يهذبها ويزكيها، لتكون فيما بعد شخصية قادرة على اتخاذ قرارتها بثقة وحكمة، وهنا يتجلّى جمال المنهج الرباني في تعامله مع النفس وتهذيبها.





_________________

(1) صحيح البخاري (1385).

(2) صحيح البخاري (2602).

(3) مسند الإمام أحمد (9836).

(4) صحيح البخاري (68).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة