العنف ضد المرأة.. هل الظروف الاقتصادية تكسر قدسية التكريم الشرعي؟
يُطل العنف ضد
المرأة بوجهه القبيح على مجتمعاتنا العربية، متجاوزًا كونه مجرد حادثة فردية ليصبح
انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان وعقبة كبرى أمام التنمية المجتمعية، الغريب والمؤلم
في آن واحد تفشي هذه الظاهرة رغم أنظمتنا الدينية والأخلاقية التي كرّمت المرأة
وأوصت بها ووضعتها في مكانة رفيعة.
وهنا يلح تساؤل:
كيف يمكن لصوت الرحمة أن يضيع وسط صدى العنف؟ هل المشكلة تكمن في سوء الفهم أم في
بنى ثقافية واقتصادية عميقة ترفض الاعتراف بقيمة المرأة؟
عندما يكون الإحسان فرضاً
لقد جاء الإسلام
ليحرر المرأة من ظلمات الجاهلية، ووضع أساسًا متينًا لحمايتها ككيان مستقل وشريك
أساسي في بناء المجتمع، رافضًا رفضًا قاطعًا أي شكل من أشكال الإيذاء، فالأساس في
الإسلام هو المساواة في أصل الخلقة والكرامة الإنسانية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فميزان التفاضل الوحيد هو التقوى، لا
النوع أو الجنس.
وأكد مبدأ
المساواة في الحقوق والواجبات وما يشمله من عدل وإنصاف، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228)،
حيث إن الدرجة هنا لا تعني التسلط المطلق، بل واجب القوامة والرعاية والإنفاق.
ولم يكتف بالنهي
عن عدم الإيذاء، وإنما أوصى بالمعاشرة الحسنة، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)،
وهو ما عززه النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم محفل، وهو حجة الوداع، قائلاً: «اسْتَوْصُوا
بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»(1) (رواه الترمذي).
وهذا يفرض على
الرجل مسؤولية الرعاية والحماية لا الإيذاء والاعتداء، ومقياس الخيرية في الرجال
واضح وهو حسن التعامل مع الأهل، قال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا
أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم»(2) (رواه الترمذي)، هذا الحديث
يضع التعامل الراقي مع الزوجة كدليل على كمال الإيمان والرجولة الحقة.
والسيرة النبوية
كمنهج عملي تقدم أعظم نموذج للرفق، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب
امرأة قط، بل كان مضرب المثل في الرفق والتسامح والصبر، وعندما سُئلت السيدة عائشة
رضي الله عنها عن خلقه، قالت: «ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلَّمَ شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إلَّا أَنْ
يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ»(3) (رواه مسلم).
الأبعاد الاقتصادية للعنف ضد المرأة
العنف ضد المرأة
ليس مجرد نتاج لسوء فهم أو غضب عابر، بل هو غالبًا ما يكون متأصلاً في بنية القوة
والسيطرة الاقتصادية والاجتماعية:
1- التبعية
الاقتصادية للمرأة: في المجتمعات التي تفتقر فيها المرأة إلى مصادر دخل مستقلة،
تكون المرأة معتمدة كليًا ماديًا على الرجل، تقل قدرتها على اتخاذ القرار وتصبح
أكثر عرضة للعنف؛ لأن خيار المغادرة أو الاحتجاج قد يعني التشرد أو انعدام الأمن
المادي لها ولأطفالها، هذا الضعف الاقتصادي قد يُستخدم أداةً للسيطرة.
2- الحرمان من
الحقوق المالية: وهو ما يسمى بـ«العنف الاقتصادي»(4) الذي يتضمن
الحرمان من الحقوق الشرعية كالميراث، أو التحكم في دخلها الخاص إن كانت تعمل، أو
منعها من العمل أصلاً، هذا يضمن السيطرة المطلقة ويجعل الرجل هو المتحكم الوحيد في
الموارد، وهي إحدى صور العنف.
3- الضغوط
الاقتصادية والبطالة: تشير الدراسات إلى وجود علاقة بين ارتفاع معدلات البطالة
والفقر، وزيادة العنف المنزلي، حيث يمكن أن يتحول الإحباط الناتج عن الفشل في
توفير الحاجات الأساسية للأسرة إلى عدوان مُوجَّه نحو الحلقة الأضعف في المنزل،
وهي الزوجة غالبًا، كآلية تكيُّف سلبية مع الفشل الخارجي.
4- الاعتبارات
الثقافية والاقتصادية: في بعض البيئات، يُنظر إلى عمل المرأة خارج المنزل على أنه
تهديد لدور الرجل الاقتصادي والسلطوي؛ ما يؤدي إلى ممارسة العنف لإجبارها على ترك
العمل والعودة إلى التبعية، وهو إحدى صور العنف الاقتصادي الذي يشمل المنع من
العمل(5).
النتائج الاقتصادية المدمرة للعنف على المجتمع
العنف ضد المرأة
ليس قضية خاصة؛ بل هو مشروع إفشال مجتمعي له تكلفة اقتصادية واجتماعية ضخمة، منها:
1- تدهور صحة
المرأة وإنتاجيتها: يتسبب العنف في إصابات جسدية ونفسية مزمنة؛ ما يؤدي إلى انخفاض
قدرة المرأة على العمل والإنتاج، سواء كان داخل المنزل أو خارجه، وبالتالي يؤثر
سلبًا على دخل الأسرة والمجتمع ككل.
2- تكاليف
الرعاية الصحية والقانونية: تتحمل المرأة والمجتمع تكاليف باهظة لعلاج الإصابات
الناتجة عن العنف، بالإضافة إلى تكاليف الملاحقات القانونية، وهي أموال كان يمكن
توجيهها للتنمية والإنتاج.
3- توارث الفقر
والعنف: البيئة العنيفة تشوّه نمو الأطفال النفسي والتعليمي، هذه البيئة تزيد من
احتمالية التسرب المدرسي، ويقلل من فرصهم المستقبلية، ليصبح العنف والفقر ميراثًا
ينتقل عبر الأجيال.
نحو إستراتيجية فعالة للحد من الظاهرة
إن مواجهة العنف
ضد المرأة يتطلب جهدًا مجتمعيًا شاملاً يقوم على:
- التفسير
الصحيح النصوص: التأكيد أن أي تأويل خاطئ للنصوص الدينية يجيز العنف هو تأويل
مردود ومخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.
- التمكين
الاقتصادي للمرأة: لا يمكن فصل الكرامة عن الاستقلال المالي، من خلال توفير فرص
العمل المتساوية، وضمان الأجر المتساوي، وحماية حق المرأة في ملكية وإدارة أموالها
الخاصة.
- التشريعات
الرادعة: سن وتفعيل قوانين صارمة تُجرِّم العنف بجميع أشكاله، وتوفر الحماية
والدعم النفسي والقانوني لمن تتعرض للعنف.
- التوعية
المجتمعية: محاربة المفاهيم الثقافية التي تصور العنف كتأديب أو حق شرعي، وتدريس
مبادئ الاحترام والمساواة.
إن كرامة
المجتمع من كرامة أفراده، ولن يكتمل البناء الاجتماعي إلا حينما يتحقق الأمن
والاحترام للمرأة، إكرام المرأة ليس تفضلاً، وإنما استثمار في مستقبل الأمة، ودليل
على كمال الرجولة.
اقرأ أيضاً
- العنف الأسري.. هل ترضاه المرأة أم تضطر للصبر عليه؟
- العنف الأسري.. ظاهرة عالمية هل تمتد إلى بلادنا؟
- العنف الأسري في الكويت.. بين واقع الظاهرة ورادع القانون
____________________
(1) محمد عيسى
الترمذي، الجامع الكبير، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة
الأولى، 1996، المجلد الثاني، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163).
(2) المرجع
السابق (1162).
(3) مسلم بن
الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسل، تحقيق أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار
الدولية، 1998م، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام (2328).
(4) مؤسسة لنجاة
من الانتهاك الاقتصادي، فهم العنف الاقتصادي، 2025م، متاح على:
https://survivingeconomicabuse.org/wp-content/uploads/2022/08/ARABIC__What-is-economic-abuse_.pdf
(5) إيمان
أحمد عبدالكريم عبد الغني، العنف الاقتصادي وأثره على الأسرة، مجلة كلية الآداب،
جامعة سوهاج، العدد (70)، ج2، 2024.