محطات إيمانية في طريق التربية..
الفاكهة المُوَلِّية.. لا تدَعْ موسم بِرّ أمك يفوتك

وقفت غير بعيد
تنظر لأمّها الحنون دون أن ينتبه لوجودها أحد، فطرقت أسماعها بضع كلمات قصيرة فاقت
كل الكلمات المنمقة التي تُعَدّ لتلقَى في المناسبات والاجتماعات المهمة؛ فتلقت
منها درساً بليغاً لن تنساه في حياتها!
أمّكَ يا زوجي
مثل الفاكهة المُوَلية، فأحضِر لها معك كلما دخلتَ عليها شيئاً تحبه؛ قطعة حلوى
لينة، أو حبة فاكهة طيبة، أو كوباً من العصير الذي تفضله، مع بسمة صافية، وحضن
دافئ، وقُبلة على جبينها.
لقد أثر فيها
هذا الموقف الرائع الحنون الذي رأته بأُمّ عينيها دون أن يحكيه لها أحد، وحُفر في
ذاكرتها سنين عديدة لم تنسَه أو تغفل عنه، بل إنها استفادت منه كثيراً في حياتها
الزوجية، وحكته لأخواتها وصديقاتها، كما تفتحت عيناها على ضرورة المسارعة بأداء
الحقوق والقيام بالواجبات دون توانٍ أو تأخير.
الفاكهة المولية
والفاكهة
المولية هي التي لها موسم خاص بها تثمر فيه، كالصيف أو الشتاء مثلاً، توجد فيه ثم
ينتهي الموسم وتذهب معه لتحل محلها فاكهة أخرى جديدة في شكلها ومختلفة في لونها
وطعمها، وهكذا يتكرر المشهد.
فما أجمل تعبير
هذه الزوجة الذكية المؤمنة حين وصفت أُم زوجها بهذا الوصف! وهذه حقيقة قد يغفل
عنها كثير من الأولاد، ولا يدركونها إلا بعد فوات الأوان! فهذه الأم وكل أُمّ
كالفاكهة في جمالها ونكهتها ومذاقها المميز، وفي التنعم بها وراحة الجسد وزيادة
مناعته، وكذلك في تخفيفها لبعض آلامه وأمراضه بإذن الله.
ومع حب كثير من
الناس للفاكهة، فإن بعضهم قد يُحرمون منها حين لا تكون في متناول الجميع الحصول
عليها لأي سبب، فيتمنون وجودها على مائدتهم، وكذلك هي الأم! فوصفت الزوجة أُم
زوجها بأنها كالفاكهة المُوَلية، فهي إن كانت مع ابنها اليوم فقد لا تكون معه غداً،
وإن استطاع أن يراها فيبرها اليوم فقد يُحرم منها بعد ذلك، فحياتها موسم له ذهاب
وانقضاء تماماً كالفاكهة حين تولي ويذهب موسمها!
أمك.. ثم أمك.. ثم أمك
إن الله تعالى
أمر ببر الوالدين، وخص الأم بمزيد من هذا البر، وذكر أسباب ذلك في القرآن الكريم
فقال سبحانه: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14)؛ قال الشيخ السعدي: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ) مشقة على مشقة، فلا تزال تُلاقي المشاق، من حين يكون
نطفة، من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع
الشديد، ثم (وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ) وهو
ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها.
كما وصى النبي
صلى الله عليه وسلم بالأم، فعن أبي هريرة قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ
بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»،
قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أبُوكَ»
(رواه البخاري).
وحذر من تضييع
فرصة البر العظيمة إن أتيحت للولد، فقال صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أنْفُهُ،
ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ»، قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: «مَن
أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ
يَدْخُلِ الجَنَّةَ» (رواه مسلم).
وذكر لنا الحكم
الشرعي للعقوق فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ علَيْكُم عُقُوقَ
الأُمَّهاتِ» (رواه البخاري)، وأكد بأن جزاء برها الجنة فقال: «الزَمْ رِجْلَها،
فَثَمَّ الجنةُ» (رواه النسائي)، ولعل هذا ما جعل ابن عباس يقول: «إنِّي لا أعلمُ
عملًا أقربَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن برِّ الوالدةِ» (رواه البخاري في «الأدب
المفرد»).
عقوق ظاهر.. وعقوق خفي
حين تغيب القيم
الجميلة في ظل هذا الانفتاح الكبير على العالم؛ يقِلُّ البر فيعق بعض الأولاد؛ ذكوراً
وإناثاً، أمهاتهم وهم لا يشعرون، فتُنادَى الأم بألفاظ لا تليق بها كأُم، أو
يحادثها الولد كأنها نِدٌّ له، فيعلو صوته صوتها، ويغضب عليها ويصيح فيها، أو
يستحيي من أنها أمه لتواضع مستواها التعليمي أو الوظيفي.
وقد تُعامِل
البنت أمها كما تُعامِل الخادمة، وتغلظ لها في القول ولا تطيع أمرها، بل وتأمرها
وتنهاها وتتمرد عليها وربما خاصمتها وضربتها، إنه العقوق المعاصر الذي غذته ضغوط
الحياة التي سلبت الطمأنينة، ومشاغل العمل التي سرقت الوقت، وإغراءات الشبكة
العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي ذهبت بالجو الأسري الدافئ وفرقت
اجتماع العائلة المميز؛ فذهبت بالسلام مصافحة والحديث مشافهة والأحضان الحقيقية،
ليصير السلام بالحروف، والحديث بالرسائل، والأحضان بالصور!
وقد عوملت الأم
كغيرها من الناس في ذلك، تعيش هذا بينما أولادها مشغولون بأعمالهم وبيوتهم
وهواتفهم وهواياتهم وأصدقائهم، قد اكتفوا بإرسال رسالة نصية أو صوتية لها وقد ظن
بعضهم أن هذا من البر منتهاه!
وقد يكون الولد
في غرفته الملاصقة لغرفتها أو على الأريكة التي تجلس أمامها لكنه بعيد عنها في
الحقيقة؛ حيث ينكب على هاتفه المحمول يقلّب فيه وينتقل من صفحة لصفحة ومن رسالة
لرسالة، أو يلعب مع أصدقائه حول العالم الذين لا يعرفهم إلا من خلال اللعب، وقد
يسهر مع أصحابه في أحد مقاهي الإنترنت ولا يراعي قلقها عليه وعدم نومها حتى يرجع!
وأثناء ذلك كله
تكبر الأم يوماً بعد يوم وتشيب سنة بعد سنة ويصيبها وهن العظام وتحيط بها مظاهر
الشيخوخة، وقد أدت وما زالت تؤدي رسالتها مع أولادها بحب وتضحية وإيثار، أفلا
تستحق بعد ذلك أن يكبر كل يوم حبها في قلوبهم، ويظهر إجلالهم لها وتقديرهم، وتستمر
رعايتهم واهتمامهم، ويزداد برهم؛ فلا يقال لها كلمة: «أف» تضجراً منها، ولا تُنهَر
أو تُزجَر في قولٍ تتكلمه أو تنصح به؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء).
بر رائع
فأبشر أيها
الولد البار؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نمتُ فرأيتُني في الجنَّةِ،
فسَمِعتُ صَوتَ قارئٍ يقرَأُ، فقُلتُ: من هذا؟ فقالوا: هذا حارِثةُ بنُ النُّعمانِ»،
فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كذلك البِرُّ، كذلك البِرُّ»! وكان أبَرَّ
النَّاسِ بأمِّه. (رواه أحمد).
لقد كان بر الأم
وما زال مطلباً غالياً يحرص عليه المتقون، فزين العابدين علي بن الحسين كان كثير
البر بأمه، حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال:
أخاف أن تطيش يدي إلى ما سبقتْ إليه عينها فأكون قد عققتها، وكان حيوة بن شريح
يقعد يعلّم الناس، فتقول له أمه: «قم يا حيوة! فألقِ الشعير للدجاج»، فيقوم ليفعل
ما أمرته به أمّه.
وفي حياتنا
المعاصرة صور كثيرة مشرقة من بر الأولاد لوالديهم، نراها ونسمع عنها في مختلف
الأنحاء.