أمهات على الهامش.. حين يُقابَل الحنان بالعقوق!

في زاوية مظلمة من بيت الابن، تجلس امرأة مُسنة تلفّ جسدها النحيل بعباءةٍ باهتة، وتلفّ قلبها بصمتٍ يجهز على ما تبقى من لحظات عمر تشعر أنه ضاع بلا فائدة، فلا أحد يعير صمتها اهتماماً ويسألها: هل أكلتِ؟ هل نمتِ؟ هل تتألمين؟ ولا أحد يهتم لحديثها إن تكلمت!

باتت تلك المسنة مجرّد أثاث قديم في منزلها الذي كانت ملكته، وكان مملكتها، تم عزلها، لتحل محلها زوجة ابنها الذي حملته صغيرًا، وربّته شابًا، ودعت له عجوزًا، ثم نسيها حين احتاجت إليه.

العنف الأسري ضد الوالدين.. نمط من جاهلية العصر |  Mugtama
العنف الأسري ضد الوالدين.. نمط من جاهلية العصر | Mugtama
على الرغم من أن الوالدين في البلاد العربية هم الأ...
mugtama.com
×

أرقام من الواقع؟

هل هذا واقع؟ سؤال يبدو مشروعاً، لكنه إجابته للأسف: نعم، حيث تزايدت في السنوات الأخيرة شكاوى الأمهات المُسنّات في البيوت الخليجية والعربية من الإهمال والجفاء، وأحيانًا الطرد الصامت.

لم يعد العقوق في عصرنا صراخًا أو ضربًا، بل كثيرًا ما يتخفّى في صور أكثر أناقة، منها التأفف، والغلظة معهم، وإهمالهم عاطفياً، والتبرّم من وجودهما، وتأجيل طلباتهما، وإغلاق الأبواب دونهما، بل وحرمانهما من رؤية الأحفاد!

وهناك عقوق عصري تفشت صوره حديثاً، من خلال رفض الأبناء الإنفاق على الآباء، رغم كبر سنهما، بدعوى الاستقلال المادي؛ ما قد يصل بالأمر في حالات كثيرة، بملفات العقوق بشأن النفقة إلى ساحات القضاء والمحاكم.

تشير تقارير حديثة إلى زيادة مطّردة في نسبة كبار السن المقيمين في دور الرعاية، رغم وجود أبنائهم الأحياء، ففي بعض دول الخليج، ارتفعت حالات طلب كبار السن التدخل القضائي للحصول على النفقة أو الرعاية.

ففي دراسة سكانية حديثة في المملكة العربية السعودية، أشارت إلى أن أكثر من 28% من المسنين يشعرون بـالعزلة الاجتماعية داخل أسرهم.

وتؤكد اختصاصيات اجتماع أن الهوة بين الأجيال تتسع مع انشغال الأبناء بعالمهم الرقمي، وتراجع دور الأسرة الممتدة.

أيضاً في المملكة العربية السعودية، هناك دراسة سجل السلامة الأسرية (National Family Safety Registry) شملت حالات بين أبريل 2017 وديسمبر 2021م لعدد 128 حالة كبار سن (65 سنة)، منها إهمال بنسبة 34.4% من الحالات، اعتداء جسدي بنسبة 44.5%.

دراسات أخرى أوسع، تشمل المنشآت السكنية، أظهرت نسب إساءة نفسية 71%، وإهمال 67%، واستغلال مالي 54%، وعنف جسدي 13% بين كبار السن في مكة وجدة.

ومن المتوقع في الكويت ارتفاع شريحة المسنين لتصل أعدادها إلى 9% من المواطنين العام 2030م، وفق بيانات حكومية؛ وهو ما يضع المجتمع الكويتي أمام تحدٍّ اجتماعي كبير لكفالة هذه الفئة، والحيلولة دون تعرضها لأي انتهاكات خلال مرحلة الشيخوخة.

وهناك دراسة ميدانية أجريت في مصر على المناطق الريفية حول مدينة المنصورة (شمال القاهرة)، شملت 1106 من كبار السن، وكان من نتائجها أن 43.7% أبلغوا عن إساءة (معظمها إهمال بـ42.4%).

دراسة عالمية نُشرت العام الجاري، توقّعت أن 27.6% من كبار السن يتعرضون لشكل من أشكال الإساءة (إهمال أو نفسي أو مالي..)، ومعدّل الإهمال وحده بلغ 19.3% ضمن هذه الإحصائيات العالمية.

خلف العقوق.. علل صامتة

لا يمكن فهم هذا العقوق المعاصر دون النظر إلى تحولات المجتمع، فضغط العمل وسرعة الحياة جعلت بعض الأبناء يرون في وجود الآباء والأمهات عبئًا على الرفاهية.

كذلك، فإن غياب التربية الروحية والدينية، وتأثير التكنولوجيا وتغول وسائل الاتصال والتواصل، يعزز من ثقافة العقوق، إذ يقضي الابن ساعات في هاتفه بينما لا يمنح أمه دقيقة، وقد يدمن وسائل التواصل، دون أن يفكر في زيارة والديه، ولو مرة أسبوعياً، بينما يظل مدعياً أو مبرراً حاله هكذا بأنه مشغول وليس لديه وقت!

ولا يمكن التغاضي عن تنامي المادية والشره الاستهلاكي في مجتمعاتنا، خاصة الخليجية منها، مقابل انزواء وانحسار قيم بر الوالدين، ورعاية المسنين، والرأفة بهم، بل واعتبارهم عبئاً على الأبناء، خاصة في حالات المرض والخرف.

أيضاً هناك ظاهرة الزوجة المتسلطة، التي لا تقبل ضُرة اسمها أم الزوج؛ ما يجعلها تُحاصَر العجوز في صمت، يشعرها بضيق البيوت الخليجية الواسعة، أو وضع الزوج في اختبار صعب، إما أنا أو أمك!


10 خطوات إيجابية تُسعد بها أمك |  Mugtama
10 خطوات إيجابية تُسعد بها أمك | Mugtama
نهدي إليك 10 خطوات، تحتفل بها كل يوم، وطول العام، بأمك
mugtama.com
×


صوت القرآن ووصية النبي

هنا يبزغ صوت القرآن والسُّنة، ليبدد هذا العقوق، إذا انتقل المرء بصداه إلى ميدان العمل والتطبيق، ليكون كل منا طوق نجاة لأمهات على الهامش، ولنرد الحنان بالبر.

قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء)، حيث جعل الله عز وجل بر الوالدين في ترتيب مقصود بعد التوحيد، دليلًا على عِظم حقهما.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة» (رواه مسلم)، ثلاثُ لعنات على من فرّط في أمه العجوز أو أبيه الشيخ الكبير.

ويأتيه صلى الله عليه وسلم رجل يسأله: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك» (متفق عليه).

في النهاية، ماذا لو كانت أمك أنت؟ فلنتخيل أنفسنا مكانها يومًا: هل نرضى أن نُهان بعد العطاء؟ أن نُترك بعد التضحية؟ أن نُنكر بعد سنوات الرعاية؟

إن العقوق لا يقتل الأمهات والآباء فقط، بل يقتل البركة في بيوت الأبناء.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة