«الليلة الكبيرة».. هل هذا هو التصوف الإسلامي حقاً؟

في الأيام الماضية،
انشغلت الساحة الدينة بحديث الموالد التي تقام لبعض الراحلين ممن اعتقد العامة
فيهم ولاية، وشيدوا على قبورهم مساجد ومقامات للزيارة.
وقد رأينا حشوداً
تاريخية تؤم الساحات، يختلط فيها الرجال بالنساء، ويتمايل الجميع في طقوس غريبة،
لا نعرفها في كتب من تلقت الأمة كلامهم بالقبول، وأجمعت على ما سطرته أقلامهم فيها!
شكَّلت الجموع
الحاشدة حالة من الجدل حول شرعية هذه الحشود، وشرعية ما تقوم به ومشروعية
الاحتفال؟ وفي وسط الركام، بدأ الحديث يذهب بعيداً إلى ساحة التصوف، فإن الجميع
يرى أنها حشود صوفية من الشيوخ والمريدين، وهي تحتفل باسمه، وتجتر الأحياء من
الصوفية، ليحتفلوا بالأموات منهم.
رحلة التزييف
منذ عقود، جمع
بعض الباحثين كلاماً لأحد الدعاة عن الصوفية ومما جاء فيه: إن الصوفية شيء
والإسلام شيء آخر! ولا يقول باجتماعهما إلا من يقول باجتماع الظلمة والنور،
والأسود والأبيض، والحق والباطل، والهدى والضلال! ثم يتساءل: هل وردت كلمة «صوفية»
في كتاب الله؟ أو هل جاءت على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
وهكذا تمضي
أقلام الباحثين تقاوم الشطط بأشد منه، وتأخذ من سكوت القارئ، أو عدم علمه طريقاً
لإقناعه، ومن عدم معرفته، طريقاً لتلقينه.
وما يختلف عندي
المتمايلون في الأسفار أمام المقامات، بهؤلاء الباحثين الذين جعلوا من تمايلهم
دليلاً على كدورة النهر، أو أنه صار ملحاً أجاجاً.
خلاف بلا طائل
أياً كان الخلاف
كيف نشأ التصوف، وأصل اشتقاقه، فإنه صار مَعْلماً لا يمكن نقضه بمجرد الاختلاف حول
أصل تسميته واشتقاقه، وهي قضية انشغل بها كثيرون، وعالجها ابن الجوزي ولا يخرج
القارئ لكلامه بطائل، حيث تغيا التشهير بالقوم.
يرى المستشرق الفرنسي ماسينيون أن الكلمة عُرفت في النصف
الثاني من القرن الثامن الميلادي، وهو يستند قطعاً لقول ابن النديم: جابر بن حيان
المعروف بالصوفي.
ونقل عن الثوري
رحمه الله، قوله: أعز الخلق 5 أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي.
فالكلمة كانت
معروفة في القرن الثاني، لكنها لم تكن متداولة.
لكن هل لو سلمنا
بجهل أصل الاشتقاق يكون ذاك مدخلاً للطعن فيما دلت عليه؟ حيث إن المصطلحات قوالب
يضعها أهل العلوم لتكون فاصلاً يتعرفون به حدود الأشياء تجمع كل أفراد المعرف،
وتمنع من دخول غيره معه.
فمن طعن في
التصوف بحجة الاختلاف في نشأته أو اشتقاق مصطلحه، فهو كمن يأخذ الطريق غير المنهجي
للرفض، ويظن أنه هدم البناء.
انحراف عن المنهج
لا بد من
التأكيد في سبيل احتذاء المنهج، أن نقف على الحقيقة من خلال القيود والحدود، لا من
خلال الممارسات والأفعال، فلقد ظلم أناس التصوف ظلماً بيّناً؛ تارة بأفعالهم
الشاذة المنكرة، وتارة بمؤلفاتهم التي لا علاقة لها بغرض العلم وحدوده، ومن هذا
القبيل نقول: لقد ظُلم الإسلام في أروقة البحث وعلى لسان كثيرين، جعلوا ممارسات
بعض المسلمين منطلقاً للنيل من الإسلام وأهله وشرائعه.
إذاً، جعل
تصرفات من ليسوا صوفية دليلاً على انحراف التصوف، وانحراف منهجه هو الانحراف
بعينه، وإذا جاز لنا أن نستسيغ النيل منه بدلالة المنحرفين عما رسمه شيوخه
الأوائل، فلمَ لا نقبل المتهمين للإسلام انطلاقاً من تصرفات المسلمين؟
التصوف كما رسمه الشيوخ
لقد اهتم شيوخ
التصوف ببيان طريقه، وأفاض القشيري في نقل كلام القوم في ذلك، فنقل عن عمرو بن
عثمان المكي أنه سئل عن التصوف فقال: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في
الوقت.
وقال القصاب:
التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام.
وسئل سمنون عن
التصوف فقال: أن تملك شيئاً ولا يملك شيء.
وقال رويم:
التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.
وقال الجنيد:
التصوف هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة.
وقال حمدون
القصار: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح.
وسئل الجريري عن
التصوف فقال: الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني.
وعلق الشاطبي
على قول أبي محمد الجريري هذا بقوله: التصوف بهذا لا بدعة في الكلام فيه، لأنه
إنما يرجع إلى التفقه الذي ينبني عليه العمل، وتفصيل آفاته وعوارضه، وأوجه تلافي
الفساد الواقع فيه بالإصلاح، وهو فقه صحيح، وأصوله في الكتاب والسُّنة ظاهرة، فلا
يقال في مثله بدعة، إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يؤلف مثلها في السلف
الصالح، أنها بدعة، كفروع أبواب السلم، والإجارات، والجراح، ومسائل السهو، والرجوع
عن الشهادات، وبيوع الآجال، وما أشبه ذلك.
وليس من شأن
العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التي لم تكن فيما سلف، وإن دقت
مسائلها، فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة أنها بدعة، لأن
الجميع يرجع إلى أصول شرعية
ونجد ابن القيم
حين يتعرض لمنزلة الخلق ينقل عبارة الكتاني: التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق
فقد زاد عليك في الصفاء.
فيقول: الدين
كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق؛ زاد عليك في الدين، وكذلك التصوف.
إذاً، هذا هو
التصوف الذي رسمه الشيوخ، وهذا طريقه الذي دون فيه أمثال الهروي، والقشيري، ومن
قبلهما أبو عبدالرحمن السلمي.
تحوّل مقيت
لا شكَّ أن نهر
التصوف القراح تعرض مجراه للكدورة، وأصبح ماؤه الصافي يحمل في تياره من سبح فيه
بلا حق.
فليس من التصوف
اعتقاد تصرف الأموات وطلب الأمداد منهم، وليس التصوف هو موالد ومهرجانات تقام كل
عام لفلان أو فلان، فإن الولاية أمر خفي لا يعرفه إلا الله، ولو صحَّ أننا
عرفناها، فهذا لا يعني أن نقيم حول الأموات موالد واحتفالات، ثم يُتهم من ينكر على
ذلك بالجهالة أو عدم الفهم.
كما أن المذاهب
الغالية كالحلول والاتحاد والفناء، التي قال بها بعض من نهج التصوف الفلسفي،
كالحلاج، وابن مسرَّة الجبلي، وابن عربي، وابن سبعين.. وغيرهم ليست من التصوف في
شيء.
ولا شكَّ أن
أقوالهم الغالية قد فتحت المصراع على اتساعه ليُطعن في الطريق الذي رسمه الشيوخ
الأوائل، وربطوا معالمه بالقرآن والسُّنة، وردوا على من ادَّعى عليهم ابتداع
النسبة واختراع المسمى، كما مرَّ في كلام الشاطبي
وما زال
الراسخون من العلماء يعتدُّون في إجماعهم على المسائل بكلام الصوفية الأوائل،
ويعتمدون مروياتهم في كتبهم كمرويات القشيري في رسالته والسلمي في طبقاته.
فلم يكن القوم
دعاة بدعة ولا مؤسسي نحلة لم تكن في الصدر الأول.
وإذا قيل: فما
فائدة النسبة إلى التصوف دون النسبة إلى الإسلام؟ فيقال: النسبة إليه كالنسبة
للفقه، والتفسير، والحديث، واللغة وغيرها، فهو علم جمع بين التنظير والتطبيق.
فكما يقال: فلان
المحدث، وفلان الفقيه، وفلان المفسر، وفلان الحنبلي، يقال: فلان الصوفي.
وقد لوحظ أن
المذاهب الأربعة قد ارتسم كثير من حملتها طريق التصوف، وبعضهم أشار في ترجمة نفسه
إلى أنه لبس الخرقة من شيخه فلان، وذكر الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام عدداً ممن
لبس الخرقة، وعدها في سير كثير ممن ترجم لهم دون أن يرى ذاك منكراً.
فطريق القوم
مرسوم لا يضره غلو الغالين، ولا مهرجانات المهرجين، بل هو سبيل مسلوك، وطرق للحق
موصلة لمن سلك فيها رسم الشيوخ الأوائل.