المرأة.. ورحلة العشر الأواخر

تأتي العشر
الأواخر من رمضان كفرصة موسمية تتسابق فيها النفوس إلى الطاعات وتتزين البيوت
بالعبادة والذكر، وفي القلب منه يتمركز دور المرأة المسلمة كعمود أساسي في البناء
الإيماني لأسرتها، حيث تجمع بين دورها كأم وزوجة وربة منزل، وسعيها للتقرب إلى
الله بالعبادة والاجتهاد، غير أن كثيراً من الزوجات يشتكين من أعباء الواجبات
المنزلية، ويعتبرنها عائقاً أمام اغتنام الليالي العشر وخاصة ليلة القدر.
لكن هذا التصور
يحتاج إلى مراجعة، ففضل اجتهاد المرأة في رمضان لا يقتصر على نفعها الشخصي، بل
يمتد ليكون قدوة تحتذى في بيتها، بحيث ينعكس نور طاعتها على أبنائها وزوجها، وهو
ما ينطوي على ضرورة الموازنة الدقيقة بين دورها في خدمة أسرتها، واجتهادها في
العبادة، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
مستند الإجابة
يتعلق بحسن إدارة الوقت واتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في الحديث
الذي أورده البخاري: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»،
وهذا الفضل ليس حكراً على الرجال، غير أن دور المرأة المسلمة في بيتها يضيف إلى
عبادتها بُعداً خاصاً.
فالمرأة،
بطبيعتها كمدبرة للأسرة، تمتلك قدرة فريدة على تحويل البيت إلى محضن إيماني، فهي
التي تهيئ الأجواء للصلاة والذكر، وهي التي تربي أبناءها على حب القرآن، وهو ما
أوردته دراسة نشرتها مجلة «الداعية» السعودية عام 1438هـ، حيث أظهرت أن 73% من
الأمهات في عينة الدراسة يشعرن بأن دورهن في تعليم الأبناء الصيام والصلاة في
رمضان يعزز من إيمانهن الشخصي؛ ما يعكس التكامل بين العبادة الذاتية وخدمة الأسرة،
ولا سيما في العشر الأواخر من الشهر الكريم.
لكن هذا التكامل
لا يأتي بسهولة، فالمرأة تواجه تحديات يومية، من إعداد الإفطار والسحور، إلى
متابعة أبنائها واحتياجات زوجها، وهنا تطرح كثير من الزوجات السؤال المتكرر: كيف
يمكنها أن تجد وقتاً كافياً للذكر وقراءة القرآن لاغتنام ليلة القدر، والفوز بما
هو عند الله خير من ألف شهر؟
التخطيط
الجيد
الأمر يبدأ من
التخطيط الجيد، وهو عين ما يمكن استخلاصه من الأمر القرآني للنبي صلى الله عليه
وسلم: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) (الشرح: 7)، وهو ما يمكن أن نفهمه كدعوة لتنظيم الوقت بين المهام
المختلفة.
فالمرأة التي
تخصص وقتاً محدداً للعبادة، كساعة أو ساعتين قبل أو بعد صلاة الفجر أو قبل
الإفطار، غالباً ما تنجح في تحقيق التوازن، إذ لا يمكن تجاهل أن التفرغ الكامل
للعبادة قد يكون صعباً في ظل المسؤوليات المنزلية، كما أنه غير مطلوب أصلاً.
اقرأ أيضاً: الخدمة المنزلية طاعة
ومن أعظم الثواب
في ديننا للنساء ربط الأجر بالنية، على نحو ما ورد في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (رواه البخاري)، وهذا يعني أن المرأة حين تخدم
أسرتها بنية التقرب إلى الله، وباستحضار قيمة هذا العمل الروحية، فإن عملها وكل
عاداتها المنزلية تصبح عبادة في حد ذاتها وليس عائقاً عن التقرب إلى الله.
القدوة الحسنة
من زاوية أخرى،
يبرز دور ربة البيت كقدوة، فالأم التي يراها أبناؤها يقظة لصلاة القيام أو منهمكة
في قراءة القرآن تزرع في نفوسهم حب الطاعة دون أن تقول كلمة واحدة، فالقدوة تغرس
الأثر الأكبر في النفوس، وهي أبلغ من ألف موعظة، وكم تعلمنا من أمهاتنا دون وعظ
محبة الإيمان! فقط برؤيتهن على سجادة الصلاة وبسماعهن في تلاوة آيات القرآن.
هذه القيمة
المركزية لقدوة ربة المنزل وأثرها الإيماني في بيتها أوردتها دراسة نشرتها مجلة «البحوث
الإسلامية» عام 1441هـ، أشارت إلى أن 82% من الأطفال الذين اعتادوا رؤية والديهم
يؤدون العبادات في رمضان أظهروا اهتماما أكبر بالصلاة والصيام مقارنة بغيرهم.
ومن هنا، يبرز
سؤال آخر: هل يعني ذلك أن المرأة لا ينبغي لها أن تستعين بأسرتها لتخفيف أعبائها
المنزلية في العشر الأواخر إذا كانت تريد ذلك؟ بالطبع لا، فديننا الذي يجعل الأجر
مضاعفاً بتحويل العادات إلى عبادات، هو نفسه الذي يشرك الأجر لمن تعاون في عمل
البر.
ولما كانت التقوى هي القيمة المقصودة بفريضة الصيام أصلاً، كما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)؛ فإن مشاركة الأبناء في بعض المهام المنزلية أو مساعدة الزوج في تحضير الإفطار من أعمال البر التي تحقق مقصود التقوى وتمنح المرأة فسحة أكبر للعبادة في الوقت ذاته.
اقرأ أيضاً: وصايا للمؤمنات في رمضان
ولا يمكننا في
هذا السياق إغفال أهمية الدعم النفسي والمعنوي الذي تحتاجه المرأة في رمضان، خاصة
مع تضاعف حالة الإرهاق الجسدي، التي قد تثنيها عن الاستمرار في العبادة.
إن أي برنامج للمرأة المسلمة في الشهر الكريم ليس مجرد جدول زمني، بل هو رحلة إيمانية تجمع بين العبادة والخدمة، فهي تؤدي دورها كقدوة لا بكلماتها فقط، بل بأفعالها التي تنير بيتها، والتوازن بين الدورين ليس مستحيلاً، بل ممكن جداً بالتخطيط والنية الصادقة والتعاون، والعشر الأواخر من رمضان ليست عبئاً إضافياً على ربة البيت، بل فرصة لتكون مع أسرتها أقرب إلى الله.