المصنفات التراثية حول الإعاقة

د. فاطمة حافظ

19 أغسطس 2025

258

كان للتعاليم القرآنية والتوجيهات النبوية الداعية إلى مراعاة الضعفاء والمرضى ورفع المشقة عنهم أثرها في التفات المصنفين التراثيين إلى الكتابة حول ذوي الإعاقة في وقت مبكر، إذ بدأ التصنيف حول المعاقين خلال ما يسمى «عصر التدوين»؛ ويقصد به الفترة التاريخية التي تمتد من القرن الثاني حتى الرابع الهجري، وفيها تم التقعيد للمعارف الإسلامية وظهرت المصنفات الإسلامية الكبرى.

وعلى هذا ظهرت المصنفات حول الإعاقة في مفتتح القرن الثالث الهجري، ولعل أقدمها كتاب الهيثم بن عدي الطائي (ت 207هـ) «المثالب» الذي ذكره الجاحظ، وتبعته مصنفات كثيرة في هذا الباب.

وإذا ما تصفحنا هذه المصنفات نجد أن بعضها جاء في مصنفات مستقلة، من مثل كتاب «البرصان والعرجان والعميان والحولان» للجاحظ، وكتابي الصفدي «الشعور بالعور» و«نكت الهميان في نكت العميان»، وبعضها الآخر ورد متضمناً في مصنفات أخرى، ولعل أشهرها «المحبر» لمحمد بن حبيب، و«المعارف» لابن قتيبة، و«التذكرة الحمدونية» لابن حمدون.. وغيرهم كثير.

ومن الناحية الموضوعية، فإن بعض المصنفات يندرج ضمن كتب الأدب من مثل كتاب الجاحظ، وبعضها ضمن التراجم ككتاب ابن المبرد «الضبط والتبيين لذوي العلل والعاهات من المحدثين»، وبعضها ضمن الكتب الشرعية كرسالة ملا قاري «تسلية الأعمى عن بلية العمى»، وبعضها ضمن الكتب الطبية من مثل كتاب «البرص والبهق» لأبي جعفر الطبيب.

وكتاب الجاحظ (ت 255هـ) المعنون «البرصان والعرجان والعميان والحولان»؛ هو أقدم مصنف مستقل وصل إلينا كاملاً حول ذوي الإعاقة، وهو يبين جلياً نظرة المسلمين في شعرهم وأدبهم إلى من كتبت عليهم العاهة وتعاملهم الرفيع معهم الذي يصل إلى حد الإسراف في المدح، الجاحظ لم يذكر الإعاقات والعاهات لينعى أربابها، بل أراد تقديم صورة لأولئك الذين لم تكن إعاقاتهم حائلاً بينهم وبين الاجتهاد والنبوغ، ولذلك سرد شواهد وآثاراً من آداب العرب وترجم لطائفة من نوابغ المعوقين على اختلاف إعاقاتهم.

والكتاب مقسم تقسيماً جيداً، لكنه لا يذكر العميان والحولان بشكل مفصل، على حين ذكر عاهات أخرى لم ينص عليها عنوان الكتاب كالحدب والمفاليج والصلع والقرع.

فقد البصر

ومن المصنفات النادرة رسالة «تسلية الضرير» للزمخشري (ت 538هـ)، وكما يبدو من عنوانها وضعها لأجل تسلية من ابتلي بفقد بصره، ويبدو أنه كتبها لشخص معين حيث افتتحها بالدعاء له أن يعوضه الله عن فقد البصر نوراً في البصيرة، وصرح أنه كتبها تسلية له لما رآه مهموماً حزيناً، ثم راح يعدد له فوائد العمى وذهاب البصر، وذكر منها:

أن الضرير يبز غيره من المبصرين في دقة الضبط وقوة الحفظ وجودة القريحة، ومنها أن جل مصائب الإنسان راجعة إلى النظر المحرم الذي نهي عنه، ومنها أن فقد البصر حال بينه وبين النظر في وجوه الحسادين ومن فارق الحياء وجوههم.. ثم ذيّل الرسالة بذكر بعض الصحابة الذين ابتلوا بفقد البصر.

ومن المصنفين الذين اعتنوا بقضية الإعاقة صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ)، وله كتابان في ذلك «نكت الهميان في نكت العميان»، و«الشعور بالحول»، وكلاهما مطبوع ومحقق.

يتألف الكتاب الأول «نكت العميان» من 10 مقدمات مرتبة ترتيباً محكماً تناولت العمى من حيث اللغة والاشتقاق وبعض فوائد تتعلق بالأعمى، كما تناولت تفسير بضع آيات وردت حول العمى، وأتبعها ببعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالأعمى، وختم بذكر طرف من نوادر العميان وذكر بعض شعرائهم، ثم ترجم لعشرات العميان من الأشراف والعلماء والشعراء.

ووأما الكتاب الثاني «الشعور بالحول» ويشتمل على 6 مقدمات ونتيجة، ويقول المؤلف: «إنني سميته كتاب الشعور بالعور، ورتبته على مقدمات ونتيجة، المقدمة الأولى فيما يتعلق بذلك من اللغة، المقدمة الثانية فيما يتعلق بذلك من حيث التصريف والإعراب، والمقدمة الثالثة فيما يتعلق بحديث الدجال وكونه أعور، والمقدمة الرابعة فيما له بالأعور علاقة من الفقه، والمقدمة الخامسة فيما جاء من الأمثال والنوادر في حق الأعور وغير ذلك، المقدمة السادسة فيما جاء من الشعر في العور والعوران، والنتيجة في سرد من كان أعور على حروف المعجم»، هذا وقد ترجم المؤلف في هذا الكتاب سيرة 77 أعور.

ومن المصنفات التي تناولت الإعاقة من المنظور الشرعي كتاب «البيان والتبيين لذوي العلل والعاهات من المحدثين» لابن المبرد (ت 909هـ) وهو كتاب صغير الحجم مطبوع ومحقق، وهو يذكر جملة من أسماء الرواة والمحدثين من أصحاب العلل والعاهات، وجلهم ممن فقدوا نعمة البصر إذ يبلغ عددهم 21 راوياً من أصل 46 راوياً، كما بعض أصحاب العاهات من أصحاب العرج والحول، ومعظم الرواة من القرون الثلاثة الأولى، وأهمية الكتاب تكمن، كما يقول محققه، في إضافته جملة من أسماء المحدثين الذين لم يذكرهم الجاحظ أو الصفدي من بعده.

ومن المصنفات الشرعية أيضاً رسالة تسلية «الأعمى عن بلية العمى» لصاحبها ملا علي قاري (1014هـ)، وهي تعرف كذلك باسم «طرفة الهيمان في تحفة العميان»، ولم يسلك ملا قاري مسلك الترجمة في الرسالة، وإنما سلك سبيلاً آخر وهو جمع الأحاديث النبوية في ابتلاء الله تعالى عباده الصالحين، وما أعده لهم من الثواب الجزيل، والأجر العظيم، وخص من أهل البلاء، من فقدوا أبصارهم في هذه الحياة، وذكر أكثر من أربعين حديثاً في هذا الباب، منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها الضعيف.

يسمح لنا هذا العرض الموجز لبعض المصنفات تقديم بعض الملاحظات والاستنتاجات الختامية، ومنها:

- أن تواتر التصنيف حول الإعاقة عبر القرون يحملنا على الاعتقاد أن نظرة المسلمين إلى مسألة الإعاقة والمعاقين كانت نظرة إيجابية، مع استثناء وحيد هو كتاب «المثالب» لهيثم بن عدي الذي اعتبر الإعاقة مثلبة تشين الإنسان، وهو ما انتقده الجاحظ في مقدمة كتابه.

- ومنها تنوع الاقترابات، فبعض المصنفات جاءت أدبية وبعضها تاريخي وبعضها شرعي، ومنها أن فقد البصر كان أكثر الإعاقات اهتماماً، فأكثر من نصف المصنفات تناولت العميان دون غيرهم من ذوي الإعاقة.

اقرأ أيضا:

استغلال الأطفال «ذوي الهمم» على مواقع التواصل.. من يُوقف الجريمة؟

المعاقون.. وحقوق الإنسان

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة