الهجر.. بين الاستقرار الأسري والطلاق العاطفي
كنت كثيراً ما أؤكد للإخوة والأخوات في دورات المقبلين على الزواج أن من الخطأ الجسيم أن يظن الزوجان أن الحياة الأسرية وردية دائماً، وأنها تخلو من المنغصات والخلافات، لأن الخلافات الأسرية سُنة من سنن الحياة؛ نظراً لاختلاف الطبائع والعقول وظروف النشأة والتربية بين الزوجين، ولأن الإنسان خطَّاء، والدنيا دار نقص وابتلاء، وقد ابتلى الله الإنسان بأخيه الإنسان ليرى صبره وقدرته على ضبط انفعالاته وسلوكه وفق منهج الله، والمطلوب من جميع أفراد الأسرة، ومن الزوجين على وجه التحديد، أن يتفهموا هذه الحقيقة الأسرية، ويحتسبوا أجر الصبر عليها، ويحسنوا إدارتها، ليحافظوا على علاقاتهم ويسيروا بأسرتهم نحو بر الأمان وشاطئ السعادة.
ويحدث في الأسرة -التي هي محل المودة والأنس والسكن- بعض المشكلات التي تدفع أحد الزوجين إلى هجر الآخر وإهماله وتجاهله، كنوع من أنواع التعبير عن الانزعاج أو الغضب، أو كوسيلة من وسائل إصلاح الآخر ورده عن خطئه، فهل الهجر مقبول في الحياة الزوجية؟ وهل يأخذ بيد الأسرة نحو حل المشكلة أم أنه يزيد البُعد والشُّقة؟
نحاول في هذا المقال أن نقف على بعض حيثيات هذا الموضوع المهم في إدارة العلاقات الأسرية.
التفاعل الإيجابي بين الزوجين
إذا كانت الخلافات الأسرية حتماً إنسانياً واجتماعياً، فالحوار والتفاهم دواؤها وطبيبها، الحوار الذي يحرص على سماع الآخر وفهمه، ويركز على الإيجابيات قبل الملاحظات والسلبيات، وينطلق من المشتركات لحل الخلافات، هذا الحوار الضروري في الحياة الزوجية ينافيه النأي والهجران الطويل.
وقد يتوهم أحدهم فيقول: ألم يأتِ هجر الزوجة في القرآن الكريم كنوع من أنواع التأديب عند الخوف من النشوز؟ والجواب: أن نسبة هذا النوع من الهجر إلى القرآن الكريم من الأخطاء الشائعة في فهم الآية الكريمة: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) (النساء: 34)؛ لأن الآية لا تتحدث عن مطلق الهجر، وإنما تتحدث عن هجر مخصوص، هو الهجر في المضجع؛ هجر في المضجع، لا هجر الكلام ولا هجر المخدع.
في الحديث الصحيح، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم عن هجر المسلم فقال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (رواه البخاري، ومسلم)، ويدخل في هذا الحديث الشريف -الذي يمثل أساساً مهماً في العلاقات الإنسانية في المجتمع المسلم- الزوجان، كما نص على ذلك بعض فقهاء الشريعة الإسلامية.
أما الآية الكريمة التي تتحدث عن علاج النشوز، فهي دقيقة في المبنى وفي المعنى، وتتحدث عن «الهجر في المضجع»، ولا تتحدث عن «هجر المضجع»، فالظرفية التي يدل عليها حرف الجر «في» تؤكد أن الزوج لا يغادر مضجعه ولا فراشه، ولكنه يهجر زوجته فيه، ويترك معه عادته في القرب والملاطفة، كوسيلة لإيصال رسالة أزعجه باعثها، وآلمه سببها، ولا تدري لربما نقلهما ذلك الهجر اللطيف إلى شوق وحب جديدين، يجددان معه حياتهما الزوجية، ويعيد مياه الحياة الأسرية إلى مجاريها.
فالهجر في المضجع -كما جاء في الآية الكريمة- لم يكن بقصد الإهانة والتعنيف، ولكنه وسيلة لهدف وطريقة لغاية، فعلى تحقيق «الاستقرار الأسري» مدارُ النص الشرعي، والوسيلة تأخذ حكم مقصدها، والنص لم يلزم بها إلا من حيث إيصالها لذلك المقصد، فإن كانت غير مجدية ولا مفيدة، أو ذات أضرار بالغة على الزوجة بحيث يضيع معها حكمتها، فعلى الزوج تركها والانتقال إلى غيرها من وسائل التعبير والتربية.
الهجر الزواجي والطلاق العاطفي
إن الهجر الزواجي -الذي يعني هجر الكلام والمنام- إذا استمر لفترات طويلة، يوصل الزوجين إلى ما يسمى بـ«الطلاق العاطفي» أو «الطلاق الصامت»؛ وهي حالة يعيشها الزوجان منفردين عن بعضهما بعضاً وهما في منزل واحد، لا يعيشان معه عيشة الأزواج وما فيها من مودة ورحمة، ولا ينطلق كل واحد منهما إلى الحياة ليبحث عن شريك آخر يجد فيه أنسه وسعده، بل هي عزلة عاطفية وعلاقة باردة، تترك ظلالها القاسية على كل أفراد الأسرة، ولها آثارها النفسية السيئة على مشاعر الأطفال المرهفة، الذين يشهدون هذه العلاقة المشوهة بين أقرب الناس لهم وأعزهم عليهم.
الحوار والتواصل سبيل السعادة الزوجية
إن الحوار بين الزوجين على أساس المرجعية الإسلامية الواضحة، وما ترتبه من حقوق وواجبات، بعيداً عن نسوية مستوردة وذكورية ظالمة، لهو الطريق الأمثل والمنهج الأكمل إلى السعادة الزوجية، حوار يتحلى بالوضوح والصراحة والصدق، بأجمل الكلمات وأفضل العبارات، في جو من الهدوء والصبر وضبط النفس وكظم الغيظ، يحترم الآخر ويفهمه، ولا يشعره بانتقاص ولا سخرية، فإن وقع خطأ أو سوء تعبير بادر الأول إلى الاعتذار ورد عليه الآخر بالعفو والإعذار، وإن غضب طرف قابله الآخر بحسن الاستماع وجدية الفهم دون استعجال، فإن مل أحدهما استأذن بالاستراحة فيقبله الآخر على الرحب والسعة.
هذا التواصل الحميم بين الزوجين هو النموذج الحضاري الذي أراده الإسلام، ثم بعد (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).
ختاماً؛ نعيش اليوم في عصر متخم بالضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والأسرة محل السكن والأنس والراحة، لنا ولأطفالنا الذين هم مستقبل البشرية والإنسان، ودورنا أن نجتهد في الحفاظ على وظيفتها لتكون دوحة الأمان وحديقة الاطمئنان.