ربطة الخبز.. وأسورة الذهب!
أتى عروسه متظاهراً أمامها بالفرح والسرور، وقد وضع يديه وراء ظهره مع شيء يخبئه عنها ليفاجئها به، ناداها وهو يبتسم رغم أن قلبه من داخله يتمزق حزناً وألماً من أجلها: لقد أحضرتُ لك هدية يا عروسي الجميلة، ألا تريدين أن تعرفي ما هي؟ أغمضي عينيك واستعدي للمفاجأة الحلوة.
انفرجت أسارير العروس وهي تفكر في هذه الهدية، أتراها أسورة من الذهب الذي عادة يقدمها العريس إلى عروسه، أم أنها خاتم من الألماس الثمين الذي يزين إصبعها، أم أن هديته هي فستان زفافها الذي اقترب موعده؟
لكنها سرعان ما نفضتْ عن خيالها كل ذلك حين اهتزت جوانب خيمتها المهترئة مع صوت الهواء، وقد مد لها العريس يده بالهدية، فتحت عينيها وابتسمت له حين رأتها، يا لها من هدية! إنها ربطة خبز!
إن هذا الموقف ليس حُلماً أو خيالاً، بل إنه واقع حاصل وحقيقة لا ينكرها أحد، فقد صارت هدية العروس في غزة ربطة من الخبز أو طبقاً من الإندومي، أو بيضة واحدة أو بعض الفاكهة! يحصل هذا ونفوس المحبين منهم تتلقى الهدية ببسمة حب صافية لا تشترط معها على الأحبة ما لا يُطاق، ولا تعنفهم إظهاراً لعجزهم، ولا تطلب المزيد منهم، ولا تصمم على تأجيل الزواج إلى حين ميسرة، ولا ترفض الارتباط وقبول الخاطب إلى أن تتحسن ظروف البلاد والعباد! ولو فعلوا ذلك لكان لهم العذر، فهم بشرٌ لهم من الأماني والأمنيات ما لغيرهم، لكنهم لم يفعلوا! فهذه العروس لا ترى هديتها مجرد ربطة خبز، بل إنها تقول عنها: «إنها أول هدية منذ خطوبتنا، والأغلى، وستبقى عالقة في ذاكرتي للأبد»!
فأي قناعة تلك التي رزقهم الله إياها وزيَّن بها نفوسهم! وأي قدوة عالية قدمت للناس في التعفف وحسن الظن والرضا والجود والحب؟! وأي تصديق عملي لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (رواه البخاري).
إن هذا درس كبير في القناعة لكل الأزواج، بل ولكل عروسين مقبلين على الزواج، ولكل أب يسعى لزواج ابنته بصاحب الدين والخلق في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها كثير من الناس في مختلف البلدان، لكنه للأسف بدلاً من أن تتيسر سبل الزواج بتخفيف مؤونته وتكاليفه، ارتفعت هي الأخرى وصعبت ليقف الشباب حائرين مكتوفي الأيدي، عاجزين عن الإقدام على الزواج إن لم يملكوا جميع نفقاته الكبيرة الباهظة، وبدلاً من أن يتفهم أولياء المخطوبة ذلك ويضعوا أنفسهم مكان هذا الخاطب، فإن البعض منهم يقف حائلاً دون زواج ابنته فيعضلها دون أن يشعر، ولعل هذا من أسباب انتشار ظاهرة العنوسة بين البنات، وتأخر سن الزواج للشباب.
وليس المقصود من ذكر هذا الموقف أن تكون هدية الخاطب لمخطوبته ربطة خبز أو ما شابهها، بل إنها دروس القناعة التي تزين القليل فيكثر في الأعين، وينعكس على سطح مرآتها صورة الأحبة فنرى فيها ظروفهم وأحوالهم لنشاركهم فيها تخفيفاً عنهم بدلاً من أن نوقعهم في العجز والشعور بالنقص كما يحصل من البعض.
فهذا يطلب ممن يخطب ابنته مهراً كبيراً يعجز الخاطب عنه، وأن يكون له بيت يملكه وليس بيت إيجار، بل وينقل ملكيته لعروسه حتى يوافق على زواجه منها! ولو تفكر قليلاً هذا الأب لعلم أن الله تعالى لم يحدد المهر في كتابه الكريم، ولم يذكره تفصيلاً كما فصلت المواريث، بل ترك ذلك حسب أحوال الناس ومقدرة كل منهم، فقد لا يستطيع هذا الخاطب إلا تقديم خاتم من حديد، وقد يستطيع غيره أن يؤتي عروسه قنطاراً، فقيمة المهر ومقداره تختلف من خاطب لآخر.
لكن البعض قد يغالي في المهور ما يقدَّم منها وما يؤخَّر، وقد ينعكس ذلك فيما بعد على حياة العروسين ويكدر صفوها حين يتخللها القلق والتوجس خيفة من عواقب تلك المغالاة.
وهذه الأم تطلب لابنتها العروس ذهبا (شبكة) عدد جراماته كذا وكذا، وتصر على ذلك ظناً منها أن هذا يُعلي من قيمة ابنتها عند الخاطب وأهله، وخوفاً من غدر الزوج بعد زواجه منها كما تتوهم!
وأخرى تطلب من الأدوات المنزلية والكهربائية ما تحتاج إليه العروس وما لا تحتاج إليه إلا بعد وقت بعيد، وثالثة تصر على تأثيث غرفة أو أكثر للأطفال الذين لم يولدوا بعد ولا تغفل عن تزيينها باللعب، أما دولاب الملابس ففيه من كل لون وشكل، ومن كل موضة وعصر، تحتاج العروس لأن ترتدي ما فيه دهرها كله وقد يفيض عنها!
كما تدخل المغالاة والمباهاة في فستان الزفاف هو الآخر، ويضاف إليه أجرة تزيين العروس (الكوافير) واستئجار صالة العرس، وكل ذلك يحتاج إلى ثروة لا يمتلكها هذا الشاب المقبل على الزواج؛ ما يؤدي به إلى الديون والقروض فيعاني من غلبة الدَّين، وقد يقع في القروض الربوية وهو ما زال في مقتبل حياته العملية التي ربما لا يتعدى راتبه فيها إحدى هذه النفقات المطلوبة منه.
وقد تكون الصورة بالمعكوس؛ فيصر الخاطب وأهله على تقديم مهر قليل للعروس مع قدرته ويساره، بل ويطلب من أهل العروس مطالب فيها تعسف وإسراف، أو شراء الكثير من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها في الوقت الحالي، أو اختيار نوعية معينة من الأثاث والفراش تكون قيمتها عالية جداً، وقد تُعيّر العروس إن لم تفعل، بل وينظر إليها نظرة الدون والقلة.
ولا شك أن كل ذلك مما يثقل كاهل الجميع من آباء وأزواج، ويوقعهم في الضيق والحرج، فكيف يأتي الحب الذي ننشده ونتطلع إليه؟ وأين كنز القناعة الذي يرفعنا ويغنينا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ» (رواه مسلم).
لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم بتيسير النكاح فقال: «خيرُ النِّكاحِ أيْسَرُهُ» (صحيح الجامع)، وذكر أن هذا التيسير بركة وفيه خير كثير فقال: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ المرأةِ تيسيرَ خِطبَتِها، وتيسيرَ صَداقِها، وتيسيرَ رَحِمِها» (صحيح الجامع)، وقال: «خيرُ الصَّداقِ أيسرُه» (صحيح الجامع).
وإنْ كان بعض ما ذكر من صور المغالاة في المهور وتكاليف الزواج صار عادة وعُرفًا، فإنه يحتاج إلى إعادة نظر وغرس قيم ومفاهيم صحيحة عن حقيقة السعادة الزوجية، وأنها لا تُبنى بالأثاث والرياش، فالحب الصادق لا يُشترى بالمال، ولا بالعقار، وأن الزوجة الصالحة هي الكنز الحقيقي للزوج، والزوج الصالح حُلم كل فتاة مسلمة وبصحبته تهنأ ومعه تسعد.
وغداً، إن شاء الله، سوف تدق طبول الأفراح في البيوت العامرة بمثل هذه القيم، وغداً يغلب اليُسر ذلك العُسر، فيأتي العريس في غزة لعروسه بالهدايا ويُلبسها أسورة الذهب، وفستان الفرح، وغداً تتحول ربطة الخبز هناك إلى بيت سعيد هانئ مليء بالخير، حيٌّ بالذرية الصالحة.