انتصر داخلياً قبل أن تنتصر خارجياً

فاطمة عبده

19 مارس 2025

74

يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)؛ وتلخص هاتين الآيتين حقيقة جوهرية في مسيرة الإنسان، وهي أن الفلاح الحقيقي يبدأ بتزكية النفس، وتطهيرها من أدران الغفلة والهوى، فكيف يعقل أن نطلب النصر في ميادين الحياة الخارجية، ونحن لم ننتصر بعد في معركتنا مع ذواتنا؟

هذا التساؤل يضيء على إشكالية مركزية في الرؤية الإسلامية، التي تجعل من صلاح الباطن شرطًا لصلاح الظاهر، ومن انتصار القلب أساسًا لانتصار الجوارح.

ولئن بدت المعارك الخارجية ظاهرة للعيان، فإن المعركة الحقيقية تخاض في ساحة الروح؛ فكما جاء في الحديث الشريف: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، فما قيمة انتصار نكتسبه في العالم الخارجي، إن كان القلب يعج بالضعف أو الشك أو الأهواء؟ إنه النموذج الذي يقدمه الإسلام لبناء الإنسان، أن يبدأَ بإصلاح ملكه الداخلي، ليكون انعكاسه الخارجي حتماً قوة لا تقهر، وإيماناً لا يتزعزع.

فالانتصار الداخلي ليس مجرد خطوة استباقية، بل هو الجذر الذي تغذى منه فروع العطاء، والشرط الذي به تستجلب نفحات التمكين، فمنذ أن خلق الله آدم عليه السلام، جعل مسيرة البشر سلسلة من الجهادين، جهاد النفس لترتفع إلى مدارج الإيمان، وجهاد الحياة لتعمر الأرض بالقسط.

ركائز الانتصار الداخلي

يكمن الفرق الجوهري بين الانتصار الداخلي والخارجي، في طبيعة المعركة؛ فالأول يعد جهاد النفس؛ فهو معركة يومية ضد نوازع الشر الكامنة في النفس، بينما الانتصار الخارجي –كالنصر في الحروب أو النجاح في الدعوة– فهو ثمرة طبيعية لصلاح الباطن، ونتيجة حتمية لاستقامة السريرة، كما تؤكد الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، فالتغيير الكوني مرهون بتغيير الإنسان لذاته، إذ لا يعقل أن تبنى حضارة أو تحرر أرض بقلوبٍ مثقلة بالضعف أو الأنانية.


اقرأ أيضاً:  أسباب النصر في الهدي القرآني


ولا يتحقق الانتصار الداخلي في الإسلام بمجرد النوايا الحسنة، بل هو بناء متكامل تقوم دعاماته على أسس شرعية وعملية، تحول الإيمان إلى قوة فاعلة في حياة الفرد، ومن أبرز هذه الركائز:

1- الإيمان العميق:

الإيمان لا يقتصر على الاعتقاد القلبي فحسب، بل هو تصديق يملأ الجوارح، ويستند إلى التسليم بقضاء الله وقدره خيره وشره، فالإيمان بالقدر يزيل الحسرة على ما فات، ويعين على الرضا بحكمة الله حتى في أحلك الظروف، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) (الرعد: 28)، والقرآن هنا ليس مجرد كتاب يتلى، بل هو معين يجدد اليقين، ويذكر بأن كل حدث في الكون هو جزء من حكمة إلهية لا تدرك إلا بالصبر والتفكر.

2- محاسبة النفس:

وإذا كان الإيمان هو الأساس، فإن محاسبة النفس هي الجسر الذي يعبر به المرء من حظوظ الدنيا إلى رحاب الآخرة، وقد حث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك بقوله: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فالمحاسبة اليومية تعيد ترتيب الأولويات، وتكشف مواطن الزلل قبل أن تتراكم، وهي ليست تأنيباً قاسياً للنفس، بل حوار بناء يعيد التوازن بين رغبات الجسد ونداء الروح، ويطهر القلب من رجس الغفلة والهوى.

3- الصبر والشكر:

ولا يكتمل الانتصار الداخلي إلا بجناحين؛ الصبر على البلاء، والشكر على النعماء، فالصبر –كما في قصة النبي أيوب عليه السلام– ليس مجرد كظم للغيظ، بل هو اختبار لإخلاص العبد في عبادة الله عند فقدان ما يحب، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت سيرته مدرسة في الصبر على أذى القريب والبعيد، حتى قال في أقسى لحظات الألم: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

أما الشكر، فهو الاعتراف بأن النعم من الله وحده، واستخدامها في طاعته، كما قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، فبالصبر تستخرج كنوز القوة الكامنة، وبالشكر تستدام نعم الله الظاهرة والباطنة.

وعليه، فإن هذه الركائز الثلاث ليست خطواتٍ متفرقة، بل حلقات متصلة في سلسلة واحدة، تصنع شخصية المسلم القادر على تجاوز الذات، ومواجهة الحياة بعزيمة لا تنكسر.


اقرأ أيضاً: اهزم خوفك تنتصر


من الذات إلى الأمة

لا يقتصر أثر الانتصار الداخلي على الفرد وحده، بل يتجاوزه ليكون لبنة في بناء مجتمع فاضل، إذ ينتقل الصلاح من القلب إلى المحيط الأسري، ثم إلى المجتمع ككل، وفقاً لمبدأ العدوى الإيجابية الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»، فالسفينة هنا رمز للمجتمع، تحفظ من الغرق بتعاون أفرادها على التقوى، وحرص كل فرد على إصلاح نفسه قبل إصلاح غيره.

خطوات عملية للانتصار الداخلي

تحقيق الانتصار الداخلي ليس ضرباً من المُثُل العليا، بل هو مسار عملي يتطلَب خطوات ملموسة تترجم الإيمان إلى سلوك يومي، في رمضان وغيره، وفيما يلي خارطة طريق لبناء الذات وفق المنهج الإسلامي:

- برنامج يومي:

لا يبنى اليقين إلا بالمداومة على العبادة والذكر؛ فـورد القرآن اليومي يجدد صلة العبد بربه، ويذكره بقدرة الله وحكمته، مصداقاً لقوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وأذكار الصباح والمساء سلاح ضد الغفلة والوساوس، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» (رواه مسلم)، ولا تكتمل هذه العبادة إلا بـمحاسبة النفس قبل النوم، بسؤالها: ماذا قدمت اليوم لآخرتي؟

- صحبة صالحة:

الصديق الصالح يذكر بالله إذا غفلت، ويعينك على الطاعة إذا فترت، لذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الجليس الصالح بقوله: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (أخرجه أبو داود)، فالصحبة الصالحة تعيد توجيه الطاقة نحو الخير، وتحصن القلب من تأثيرات رفقاء السوء.

- التدريب على العطاء:

التطوع في أعمال الخير ليس مجرد فعل اجتماعي، بل هو تدريب على تجاوز الذات وتحرير القلب من الأنانية، فمساعدة المحتاج، أو إصلاح ذات البين، أو حتى تبسمك في وجه الآخرين، يعيد تعريف السعادة بأنها إحساس بالغاية، لا مجرد تحصيل منفعة.


اقرأ أيضاً: الانتصارات الصغيرة!


- الاستشارة الشرعية:

حين تعاند النفس أو تحيط بها الشبهات، يكون اللجوء إلى عالم ثقة فرضاً لاستعادة التوازن، فقد قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، والعالم لا يفتي فقط، بل يرشد إلى كيفية تطبيق الشرع في واقع المشكلات النفسية، دون إغفال الجوانب الروحية.

واليوم.. أينما كنت، ومهما كانت ظروفك، ابدأ خطوتك الأولى: طهر قلبك، أصلح نيتك، واجعل كل حركة عبادة، فبهذا تكتب لك النصرين: نصر الدنيا بالتمكين، ونصر الآخرة بالفلاح.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة