بين «نكسة يونيو» و«طوفان الأقصى».. كيف تتشكل الهويات؟

فاطمة عبدالرؤوف

12 يونيو 2024

3229

يعد سقوط الخلافة العثمانية حدثاً فاصلاً في تاريخ أمتنا الحضاري، فبعد أن كان سقوط خلافة إسلامية ما يعقبه قيام خلافة أخرى تحمل نفس الهوية الدينية مع اختلاف الجنس والعرق والقومية، إلا أن المقدس الديني لا يمس، بل يكون هو ركيزة الشرعية للخلافة الجديدة.

أما تجربة الخلافة العثمانية فكانت مختلفة تمام الاختلاف، فالخلافة التي ضعفت وانتشرت فيها أمراض الأمم الذابلة وهو أمر معتاد فيما يعرف بدورة الحضارة، تم إسقاطها وإسقاط الهوية التي كانت تمنحها الشرعية؛ ألا وهي الجامعة الإسلامية، وتحول مركز الخلافة لنشاط قومي متطرف سعى لاحتقار الهوية الإسلامية، بل وتجريمها وتحميلها أسباب التأخر الحضاري، وهو ما انعكس على بلادنا العربية التي سعت هي الأخرى وراء سردية القومية العربية كهوية بديلة لهوية الجامعة الإسلامية التي تم لفظها، بعد أن اقترنت بصورة الجهل والفساد والاستبداد والجمود، وهي السمات التي تتواجد في الحضارات المحتضرة ولا علاقة بينها وبين الهوية الدينية، بل إن القيم الإسلامية التي تعلي من قيمة الشورى والعدالة والمسؤولية هي على النقيض تماماً من ذلك.

بعد سقوط الخلافة العثمانية تصاعد اتجاهان جديدان للهوية أحدهما الوطنية والآخر القومية العربية

ولكن وقوع التناقض ما بين القيم الكبرى للهوية والواقع المزري ومحاولة المطابقة بين الاثنين أفرز في نهاية الأمر (مع مؤامرات فكرية وعسكرية من الحضارة الغربية التي قامت بتجديد هويتها) هذا النفور من الهوية الإسلامية، حيث تم اعتبار الدين مسألة فردية وقضية شخصية، أما الهوية فهي للعرق واللغة، ومن ثم راجت القومية العربية كبديل قادر على الوقوف في مواجهة الاحتلال ومشروعه الإمبريالي في فلسطين.

نكسة يونيو

على الرغم من أنه لا تعارض بين الهوية الوطنية والقومية والدينية فهي مجرد دوائر متداخلة قد تبدأ بهويات أصغر ربما تبدأ من الأسرة وتنتهي بهويات أوسع تشمل الجنس البشري كله حيث الأخوة الإنسانية؛ فإن هذا الطرح يبدو نظرياً، فثمة هوية تسيطر على الأمة في وقت ما، وتصبح هي أم الهويات، إن جاز التعبير، وبعد انهيار الخلافة العثمانية المأساوي، تصاعد اتجاهان جديدان للهوية؛ أحدهما الهوية الوطنية، والاتجاه الآخر هو الهوية القومية العربية، ولكن مع قرارات تقسيم فلسطين وإعلان وطن قومي لليهود ومن ثم قيام حرب عام 1948 تم تصعيد توجه القومية العربية كهوية جديدة للأمة في مواجهة الاحتلال ورأس حربته في فلسطين.

كان كل شيء يمهد الأرض للهوية الجديدة؛ مناهج التعليم، الفنون، التنظيمات الشعبية الجديدة، الصحف، كل شيء يتشابك لصناعة العربي الجديد القادر على هزيمة الكيان الصهيوني وتحرير أمته من نير الاحتلال والارتقاء بها إلى صفوف الأمم المتقدمة.

ويمكن هنا أن نلحظ أن ترسيخ الهوية الجديدة قد سار في اتجاهين؛ أحدهما شعبي مثله اتحادات الطلاب في الجامعات ونقابات العمال والصحف، والطرح الآخر رسمي عن طريق محاولات الوحدة وصناعة تنظيمات سياسية موجهة، وحتى إخراس الأصوات المعارضة والزج بهم في السجون.

وفي هذا السياق، نلحظ قيام بعض المشروعات الكبرى والقرارات السياسية التي تتسم بالجرأة وتحدي القوى الاستعمارية، بل ومحاولة صناعة تحالفات دولية جديدة كمجموعة دول عدم الانحياز، ونحو ذلك مما ألهب حماس الجماهير في انتظار الخطوة الكبرى المنتظرة هزيمة العدو الصهيوني وتطهير الأرض من رجسه وإلقائه في البحر إن أمكن!

كانت القصائد المشتعلة والكلمات والأغاني القومية التي مثلت وعي الشباب في هذه الفترة الوقود العاطفي والوجداني لهذه الهوية الجديدة التي تشكل «القومية العربية» التي تحولت لسردية عظيمة، وأصبحت القضية الفلسطينية مقدساً قومياً وفقاً لهذه السردية، تم تهميش الحريات ورفض المعارضة وأي حديث عن أي هوية أخرى، حتى لو كانت الهوية الإسلامية، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

الهزيمة الثقيلة في نكسة يونيو 1967م مثلت المسمار الأول في نعش هوية القومية العربية

حتى استيقظت الأمة على نكسة زلزال الأيام الستة التي أطاحت بكل الأحلام الكبيرة والتضحيات العظيمة التي عاشتها الشعوب العربية، هزيمة مخجلة بكل المقاييس، جيوش لم تحارب، ابتلاع أراض عربية جديدة على كافة خطوط الاشتباك وضياع الباقي من أرض فلسطين المقدسة.

مثلت الهزيمة الثقيلة على الأرض المسمار الأول في نعش هوية القومية العربية، وفتحت الباب واسعاً للتساؤلات والمراجعات، وسقطت صورة الزعماء الملهمين الذين أودعتهم الأمة آمالها، استمر تيار القومية العربية ممثلاً للهوية الجديدة عدة سنوات أخرى، ربما بفعل القصور الذاتي، وربما لتحويل مسؤولية الهزيمة لبعض القادة الفاسدين وليس للمشروع ذاته، حتى اعتبرت الهزيمة مجرد نكسة لمسار التقدم القومي العربي.

معركة «طوفان الأقصى»

جاء انتصار أكتوبر 1973م بمثابة رد اعتبار لكرامة الأمة التي أهدرت في العام 1967م، وكان شعار «الله أكبر» الذي رفع في هذه الحرب إيذاناً بأن هوية جديدة للأمة في طور التشكل، إلا أن ما حدث بعد ذلك هو حالة من الصراع الهوياتي، ما بين الهوية القومية صاحبة الزخم الثقافي الأعلى والهوية الإسلامية التي تسعى للتجديد بعيداً عن الإرث العثماني وما صاحبها من مدارس وتجارب، ثم عودة الهوية الوطنية بعد كفر قطاعات كبيرة بالهوية القومية، وبعد بدء مسار المفاوضات والسلام والتطبيع والصلح والقبول بالكيان الصهيوني كجزء من «الشرق الأوسط».

كل هذا أدى لولادة تدريجية لهوية جديدة تنكرت جزئياً أو بصورة شبه كلية للقضية الفلسطينية، والتطبيع الذي بدأ بارداً محدوداً مداناً في معظم الأقطار أصبح دافئاً حاراً تتسارع الخطوات للحاق بقطاره، ذابت الهوية الوطنية الممزقة في هوية العولمة الجديدة؛ حيث مثل القبول بالكيان الصهيوني والتعاطي معه أحد شروط الاندماج فيها.

«طوفان الأقصى» تشكل إرهاصات لهوية جديدة لأمة إسلامية قادرة على الفعل يُحسب حسابها جيداً

نسخة مشوهة من العولمة تلك التي شكلت هوية أمتنا في الفترة الأخيرة، فالبرجماتية كفلسفة، والاستبداد كنمط للحكم، والاقتصاد الريعي كمصدر للدخل، وغياب أي مشروعات كبرى حقيقية سواء على المستوى الوطني أو القومي، والتنكر للغة العربية في الأوساط الشبابية والتعليمية، والأسوأ من ذلك كله الشعور أننا مجبرون على هذه الهوية، عاجزون عن الفعل؛ أن الكيان الصهيوني أصبح حقيقة وجودية لا بد من تقبلها والتعامل معها.

جاءت معركة «طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر 2023م، لتزلزل مسار الأحداث، وكأن ما حدث من انتصار للعدو في حرب الأيام الستة وما تلا ذلك من مسارات قد جاءه اليوم السابع المستحق ليخلخل بنيته ويحطم أوهامه، فبعد أن أوشك العدو ومعه القوى الإمبريالية الجديدة على تحقيق نصر حاسم لم يكن كمعركة يونيو التي قد تكون نكسة وينصلح المسار، وإنما على مستوى اختراق الوعي والهوية؛ أن تقبل الأمة الهزيمة برضاها، بل وربما رأت في الهزيمة نصراً، أن ترى في عدوها وداعميه قوة لا يمكن أن تُقهر أو تُقاوَم فتقرر الاستسلام تحت مسمى الصداقة.

ولكن «طوفان الأقصى» تأتي لتثبت لهم أنهم سقطوا ضحايا الهزيمة النفسية، وأن مجموعة مقاومة صغيرة العدد بدائية العتاد تُرهب وتُرعب العدو فقط؛ لأنهم جعلوا من قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال: 17) شعاراً لهم، فاجتهدوا في الرمي وتوكلوا على الله فحققوا ما كان يتصوره العاجزون مستحيلاً.

نستطيع أن نقول: إن «طوفان الأقصى» تشكل إرهاصات لهوية جديدة لأمة إسلامية قادرة على الفعل يحسب حسابها جيداً، وليست مجرد غثاء كغثاء السيل، فالسعي والرمي والنصر بوابة الشعوب لتشكيل الهويات.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة