فقه دعوة الأقليات المسلمة (2)

تأليف قلوب غير المسلمين

د. علي الأزهري

11 سبتمبر 2025

94

 

الأساس الثاني الذي يبنى عليه ما بعده في التواصل مع غير المسلمين هو تأليف قلوبهم، ولربما كان تأليف القلوب ناتجاً عن الاندماج الإيجابي مع غير المسلمين خاصة في المناسبات الاجتماعية.

الناظر في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعامله ودعوته لمن حوله سيجد أنه كان دائماً حريصاً على تأليف قلوب المدعوّين من حوله، فعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس» (المعجم الأوسط: الطبراني).

نماذج عملية لتأليف القلوب مع غير المسلمين

1- نموذج تأليف قلوب النصارى بالثناء عليهم فيما أحسنوا فيه:

ومن نماذج الثناء على النصارى ما روى عنه، قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِىُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ»، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. (صحيح مسلم).

وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها؛ لأجل ألا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم.

2- نموذج تأليف قلوب غير المسلمين بالمال عن طريق البذل والعطاء والوصية:

وهذا هو الأساس في تأليف القلوب، فيُعطى أهل الكِتاب من المال حتى تتألف قلوبهم إلى الإسلام كما كان من صفية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن فعلت هذا الأمر طمعاً في إسلام ذي قرابة لها من اليهود، فعن عكرمة قال: باعت صفية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم داراً لها من معاوية بمائة ألف، فقالت لذي قرابة لها من اليهود: وقالت له: أسلم، فإنك إن أسلمت ورثتني، فأبى فأوصت له، قال بعضهم: بثلاثين ألفا. (مصنف عبد الرزاق: ج6، ص33، (9627))‏.

3- تأليف قلوب أهل الكِتاب بالمحافظة على أموالهم:

وذلك بعدم التطلع إليها أو الطمع فيها، وقد أوصى النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذاً حين أرسله إلى اليمن وهم أهل كِتاب فقال له: «فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» (صحيح مسلم).

4- نموذج تأليف القلوب بالالتقاء على القاسم المشترك:

وقد سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المسلك في دعوة أهل الكِتاب، خاصة وبين الإسلام وأهل الكِتاب الكثير من القواسم المشتركة، وقد ظهر هذا الأمر في أكثر من موقف، منها: الالتقاء على القاسم المشترك في كِتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران الذي جاء فيه: «بِاسْمِ إلَهِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي أَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللّهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ وَأَدْعُوكُمْ إلَى وِلَايَةِ اللّهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِبَادِ» (محمّد الغزالي: فقه السيرة).

فقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم القاسم المشترك مع نصارى نجران من تقدير الأنبيّاء السابق ذكرهم، وهذا أدعى لقبول الحق، وليس يخفى ما في ذكر هؤلاء الأنبيّاء من إشعار للمخاطب بنوع من التواصل، وهذا بدوره يقرب النفوس النافرة.

5- نموذج تأليف القلوب بموافقة القوم في الأمور التي لا تخالف الإسلام:

من الأمور التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسلكها موافقة غير المسلمين في بعض الأمور التي لم يؤمر فيها بشيء؛ وذلك تأليفاً لقلوبهم واستعطافاً لهم على الإسلام، ورجاء إسلامهم.

ومن ذلك موافقتهم في إسدال الشعر، فقد روى ابن عباس «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكِتاب يسدلون رؤوسهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكِتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبيّ رأسه» (صحيح البُخاريّ: كِتاب المناقب، باب صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ج3، ص1305، (3365)).

قال ابن حجر: في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافق أهل الكِتاب إذا خالفوا عبدة الأوثان أخذاً بأخف الأمرين، فلما فتحت مكة ودخل عباد الأوثان في الإسلام رجع إلى مخالفة باقي الكفار وأهل الكِتاب. (ابن حجر: الفتح، ج7، ص276-277).

وهذا لا يتنافى مع ما ورد عنه من النهي الصريح في الأحاديث الصحيحة بمخالفة اليهود والنصارى، «فإن تلك المخالفة التي أمر بها إنما هي في الأمور التي أمر فيها بشيء أو نهى عن شيء منها مما هو عليه أهل الكِتاب، فإن هذا يتحتم عليه مخالفتهم فيها، كما يتحتم عليه أن يأمر أمته بمخالفتهم فيها أيضاً، وقد فعل، وأما موافقته لهم فإنها من الأمور التي لا وحي فيها».

أوجه الاستفادة من تأليف قلوب غير المسلمين

أ- أن تأليف القلوب من أهم أسباب الاستجابة للدعوة، فإن العادة جرت أن المحب لمن يحب مطيع، وإذا استطاع الداعية أن يؤلف قلوب المدعوين كانت استجابتهم لدعوته أقرب.

ب- التأليف يتحقق بعفو الداعية ولينه مع المدعوّين من أهل الكِتاب، حتى لو أساؤوا له فلطالما كان العفو عن المسيء سبباً في رجوعه للحق.

جـ- ونفس الشيء بالنسبة لتخصيص جزء من المال لتأليف قلوب المدعوين من أهل الكِتاب، وقد جعل الإسلام من بين الأسهم التي تجب لها الزكاة سهم المؤلفة قلوبهم.

د- إنه على فرض عدم استجابة المدعوّ للدعوة الإسلامية، فإن المودة والألفة تبقى موجودة بين الداعية وبينهم، وهذا بدوره يؤدي إلى قوة المجتمع وتماسكه، وهذا المعنى «القوة والاتحاد».


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة