تداعيات الحرب على غزة.. جيل بلا طفولة

ابتدأت الطفلة «وئام»
يومها كأي طفلة، لعبة تلو الأخرى، حتى انقطع الصخب بانفجار لم يسمح لها حتى
بالوجود في مكانها، لتخرج مع عائلتها والجيران في منتصف الليل تبحث عن مأوى، مشهد
تكرر على مدى عامين كاملين في قطاع غزة، وشهدته جغرافيا بلداننا العربية
والإسلامية في عديد مواقعها خلال السنوات العشر الماضية؛ ما خلق بيئة لظاهرة
اجتماعية باتت عابرة للبلدان، فيما بات يعرف بـ«الأطفال مسلوبي الطفولة».
فأقران «وئام»
في السودان، ومن قبل في سورية، لطالما استيقظوا على صوت انفجارات تهز أساس
منازلهم، وأصبحوا معتادين بمرور الوقت على التمييز بين أنواع القذائف المختلفة كما
يميز أطفال آخرون بين ألعابهم المفضلة.
لم يعد هذا
المشهد استثناء، بل واقع يعيشه 449 مليون طفل حول العالم؛ أي أن أكثر من واحد من
كل 6 أطفال يقطنون في مناطق النزاعات المسلحة، بحسب تقرير نشره معهد أبحاث السلام
الدولي (PRIO)، المتخصص في دراسات النزاعات.
غير أن آثار هذه
الظاهرة تبدو عميقة في نفسية الأطفال وتتجاوز الجروح الظاهرة، ففي قطاع غزة، أظهرت
دراسة شملت 521 طفلاً ونشرتها مجلة «علم النفس التطبيقي» (Applied Psychology Journal)، أن 26.29% منهم يستوفون معايير تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة،
وذلك بعدما شاهدوا تدمير منازلهم ومقتل أفراد عوائلهم وأصدقائهم، وربعهم تعرض
للتعذيب أو شاهد آخرين يتعرضون له.
الإجهاد السام
يصف الطبيب
النفسي كينيث ميلر، من منظمة «وار تشايلد هولندا»، هذه الظاهرة الاجتماعية
المتنامية في بلدان العالم الإسلامي قائلاً: عندما يفقد الأطفال أحد الوالدين أو
يعيشون في خوف شديد لفترة طويلة، يمكن لأدمغتهم أن تتحول إلى حالة طوارئ دائمة،
وهذا «الإجهاد السام» يؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة وإلحاق أضرار بالدماغ قد تكون
دائمة.
وفي هذا الإطار،
تنقل منظمة «أنقذوا الطفولة» المعنية بحماية حقوق الأطفال حول العالم عن أُم سيدة
تدعى «أمل»، وهي أم لأربعة أطفال في غزة تتراوح أعمارهم بين 7 و14 عاماً، قولها: بعض
أطفالي لم يعودوا قادرين على التركيز في المهام الأساسية، ينسون الأشياء التي
أخبرتهم بها فوراً ولا يستطيعون تذكر الأحداث التي وقعت للتو، لن أقول: إن صحتهم
النفسية تدهورت، بل تم تدميرها بالكامل.
بل إن الأثر لا
يقتصر على الجانب النفسي والاجتماعي، إذ قد يصل إلى مستوى التأثير «الجيني»، بحسب
دراسة أوردتها مجلة «نيتشر» العلمية، مفادها أن آثار صدمات الحرب لا تقتصر على
الأطفال المباشرين، بل تنتقل عبر الأجيال من خلال آليات وراثية معقدة.
ووفق الدراسة،
التي أجريت على قطاع من اللاجئين السوريين، فإن «بصمات جينية» للعنف بدت ظاهرة على
أطفالهم، وهي من نوع يمكن أن ينتقل عبر 3 أجيال على الأقل، مشيرة إلى أن الأطفال
الذين تعرضت أمهاتهم للعنف أثناء الحمل أظهروا تسارعاً في «الشيخوخة الجينية»؛ ما
يبرز الأهمية الحاسمة لاستقرار فترة نمو الجنين.
هذا النوع من
الصدمة العابرة للأجيال يزيد من خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات
القلق مثل الوسواس القهري والرهاب الاجتماعي، بحسب خبراء.
تأثيرات سلوكية ونفسية
وفي هذا الإطار،
ترى الباحثة في علم الاجتماع أديبة حمدان أن تداعيات الحرب على الأطفال نفسياً
واجتماعياً تعد من القضايا الحساسة والشائكة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن
الواقع الجاري لم يأت من فراغ، بل جاء تتويجاً لسلسلة من الحروب والاعتداءات التي
يمتد عمرها، في الحالة الفلسطينية على سبيل المثال، إلى عشرات السنين.
تضيف حمدان لـ«المجتمع»
أن الجيل الحالي في غزة يحمل في وعيه ووجدانه موروثاً ثقيلاً من التجارب المؤلمة، التي
تتمثل في الاحتلال، وسلب الأرض، وفقدان الوطن، والاعتداءات المتكررة التي نقلها
الأهل عبر الذاكرة الجمعية، وإذا ما حاولنا قراءة واقع هؤلاء الأطفال اليوم، فإننا
نصطدم بتأثيرات عميقة على نشأتهم النفسية والاجتماعية، بل وعلى تشكيل شخصياتهم
المستقبلية.
فالإرث الذي
يحملونه ثقيل، وسيظهر أثره في مجالات متعددة من الصحة الجسدية إلى الصحة النفسية،
ومن السلوك اليومي إلى طريقة التفكير، مروراً بالأداء الدراسي والاجتماعي، بل وقد
يمتد ليطال طموحاتهم، بعد أن خسروا كل شيء؛ أهاليهم، وأصدقاءهم، وبيوتهم، بل حتى
فرص البقاء نفسها، في ظل أعداد الضحايا الهائلة مقارنة بعدد السكان.
مسلوبو الطفولة
ومن هنا، تبدأ
التأثيرات السلوكية والنفسية بالظهور، سواء على شكل انطواء، أو فرط نشاط، أو
اضطرابات في الحركة، أو حتى سلوكيات عدوانية، لكن الأهم، وفق الباحثة، أن
مجتمعاتنا ستعاني من ظاهرة وجود براعم «مسلوبي الطفولة»؛ إذ يصبح الواحد منهم أكبر
من عمره، ويتحول فجأة إلى «رجل» قبل الأوان، بعد أن تخطى مرحلة الطفولة التي كان
يجب أن تكون وقت لعب وفرح وبناء شخصية سوية، تمكنه لاحقاً من أن يكون مواطناً
فاعلاً ومتفاعلاً في مجتمعه.
ويطرح هذا
الواقع سؤالاً جوهرياً: كيف نتعامل مع طفل قهر بحرمانه من مدرسته ولعبه وأهله، ومن
الاستقرار اليومي الذي يُفترض أن يتمتع به أي إنسان؟ تجيب أديبة حمدان محذرة من أن
هذا القهر قد يولد شخصيات غير متوازنة، تتجلى في صور مختلفة، منها: الإحباط
والتمرد، أو حتى الانحراف، سواء على شكل عنف تجاه الآخرين أو تجاه الذات.
وهنا، لا يكفي
الحديث عن تعويض الأطفال كمفهوم عام؛ لأن ما خسره هؤلاء الأطفال لا يُعوض بممتلكات
أو مال، فالتعويض وحده غير كافٍ، بل يجب أن يواكبه نهج خاص يأخذ بعين الاعتبار
التاريخ المؤلم الذي مر به هذا الجيل، لأن هناك خطراً حقيقياً في أن يتحول هذا
الحرمان إلى قساوة نفسية، أو انحراف سلوكي، أو حتى نزعة انتقامية.
وإزاء ذلك، تؤكد
الباحثة ضرورة العمل على إحاطة نفسية واجتماعية دقيقة وشاملة لهذا الجيل، تُبنى
على أسس علمية، خاصة في ظل ما يعرف في علم النفس بـ«صدمة الجماعة»، إذ تعرض هؤلاء
الأطفال لصدمة جماعية هائلة لن تُمحى بسهولة.
وترى حمدان أن
المسؤولية تقع على عاتق السلطات الرسمية، وكذلك على المنظمات غير الرسمية والمجتمع
المدني، للقيام بأقصى الجهود الممكنة لإحاطة هذا الجيل رعاية ودعماً، بحيث لا
يقتصر التعويض على ما فاتهم، بل يجب أن يشمل فتح آفاق أمل جديدة، وتمكينهم من رؤية
باب للازدهار والمستقبل.
فهؤلاء الأطفال رأوا
الموت أمام أعينهم؛ ولذا، فإن فرص الحياة الإيجابية قد تكون السبيل الوحيد
لاستعادتهم إلى مسار طبيعي، بحسب الباحثة، التي تخلص إلى التأكيد أن التعامل مع
هذا الجيل يتطلب خصوصية استثنائية في السياسات الاجتماعية والتربوية والصحية،
تتجاوز النهج التقليدي، وتضع في صلب أولوياتها إعادة بناء الثقة، وإحياء الأمل،
وتمكين الطفل من أن يعيش طفولته المفقودة، ولو جزئياً، ليصبح غداً مواطناً سوياً،
لا ضحية دائمة للحرب والقهر.
اقرأ
أيضاً:
هاني وسارة..
طفولة بُترت أطرافها وأحلامها!
أطفال غزة..
كيف يعبرون «التروما»؟