ترتيب أولويات الأمة في ضوء المتغيرات العالمية

تحولات سريعة وعميقة وموسعة يشهدها العالم على كافة المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية؛ ما يدلل على تغيير خريطة العالم الجيوسياسية، منها ما يتعلق بتراجع أدوار لدول كبرى وقوى فرضت نفسها على العالم منذ ستينيات القرن الماضي، ثم صعود قوى أخرى كانت وما زالت تسمى بدول العالم الثالث لتتبوأ مكاناً في مقدمة الدول مثل الصين والهند، أيضاً تنتشر ظواهر لم يكن يعرفها العالم من قبل بهذا الحجم مثل التغير المناخي.

كل هذا ويظل العالم  الإسلامي كما هو دون حراك، بحيث تظهر الحاجة الملحة لترتيب أولوياته من مجرد كونه ساحة لاستهلاك المنتج الغربي، وسوقاً رائجة لكل ما هو جديد حتى ولو لم تكن هناك حاجة إليه.

وفي ظل تلك المتغيرات السريعة يجب أن تكون هناك إرادة قوية لإعادة ترتيب أولويات الأمة بما يحقق مصالحها العليا ويحفظ هويتها ووجودها واستقلالها.

فقه الاستجابة في زمن التحوُّلات (1).. مدخل تأسيسي | Mugtama

نحن نعيش في واقع ليس مليئًا بالأحداث فحسب، بل أحد...

mugtama.com

×

ترتيب الأولويات في الشريعة

ترتيب الأولويات فرع بعلم فقه الواقع وفقه مقاصد الإسلام، فهو أحد أركانه، ويقصد به تقديم الأهم على المهم، والأكثر نفعاً على الأقل نفعاً، والعاجل على الآجل إذا لم يتعارضا، وهو مستمد من قواعد الشريعة، مثل: قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وقاعدة «تقديم الكليات على الجزئيات».

يقول ابن القيم: «إن من فقه المفتي أن يوازن بين المصالح والمفاسد، وبين الضروريات والحاجيات والتحسينات»⁽¹⁾، ومنها قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24)؛ فهذا هو المنهج القرآني في ذكر أمثلة ترتيب أولويات المسلمين كأفراد وأمة، فتقديم الأهل على حب الله ورسوله واتباع منهاجه نذير بحرب الله تعالى، ووصم بالفسق لفاعله.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى أهل اليمن: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (متفق عليه).

الشباب وإدارة الوقت.. بين علو الهمة وتحديات الواقع | Mugtama

- إدارة الوقت من أهم المهارات التي يجب على...

mugtama.com

×

أهم المتغيرات العالمية

أولاً: التحولات الجيوسياسية:

من أبرز التحديات التي تواجه الأمة اليوم حيث تقع في دائرة المفعول به على الدوام، وهي أرض لصراع الكبار للحصول على مكاسب أكبر في المنطقة، ومثال على تلك التحولات الصراع القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا حول فرض الهيمنة على أكبر مساحة ممكنة فيما يسمى بالشرق الأوسط، مع تراجع الدور الأمريكي ولو بصورة ضئيلة للخروج من القطبية الفردية، لزمن التكتلات العالمية.

ثانياً: التحولات الاقتصادية:

توقف الدخل الاقتصادي للعالم في فترة من الفترات عند البترول والغاز والذهب، وها هو اليوم يتحول لعالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وثورة المعلومات والعلوم المستحدثة والوظائف المهددة بالانقراض، ووظائف أخرى تولدها الحاجة، وما زال العالم العربي والإسلامي بعيداً عن التأثير والتعاطي معها إلا في دائرة الاستهلاك السطحي لعلومها.

ثالثاً: التحولات المناخية والبيئية:

ومن أهمها الصراع القائم والمتوقع على ملفات المياه خاصة بعد بناء السدود، وتولد الزلازل في أماكن كانت بعيدة عنها تماماً.

رابعاً: ظاهرة التداخل الثقافي:

التي تهدد بضياع الهوية العربية والدينية خاصة في أوساط الشباب، وما نتج عنه من انتشار للإلحاد وظاهرة التدين الجديد المفرغ من مقاصد الشرع.

اقرأ أيضاً: دور الأسرة في نقل التراث الإسلامي إلى أبناء الأمة

ما أولويات الأمة في ظل تلك المتغيرات؟

هي تحديات خطيرة تواجهها الأمة ويجب عليها أن تعيد ترتيب أولوياتها للخروج من مأزقها الراهن والغياب الحضاري، ومن هذه الأولويات:

1- العودة لقراءة صحيحة للدين كما أنزل في فجر الرسالة، قراءة تعيد الأمة لعقيدة صحيحة، وهوية واضحة، حيث إنها مهددة بالفعل تحت الهجمة الثقافية الخطيرة وعدم مجابهتها بتعليم ملائم، وأسرة مهيأة لتربية أبنائها، وإجراءات ثقافية تسخّر وسائل الإعلام للتحرك بين الشباب بحرفية ومهنية.

2- مراجعة الازدواجية التعليمية، بين التعليم العلماني والديني، الذي أخرج أجيالاً تحمل تناقضاً مجتمعياً يصعب الجمع بينهما.

3- مواجهة الحملات العالمية التي تهاجم الإسلام وتصفه بما ليس فيه، ولن يتأتى ذلك إلا بتقوية الوسائل التربوية بدءاً من الأسرة والتعليم والمعلم والمناهج والمؤسسات الدينية وإعادة تهديف التعليم خاصة العلوم الإنسانية بشكل يشمل العالم العربي والإسلامي، وإعادة النظر في دراسة اللغة العربية والتاريخ وعلوم التفسير وفتح باب الاجتهاد من جديد.

4- تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والسلاح، فلا يجب لأمة تحاول أن تستعيد ذاتها أن تعتمد في غذائها على مناوئيها أو عدوها.

5- التكامل الاقتصادي، فيجب أن تتكامل الأمة وتتوحد كلمتها خاصة أنها تملك المقومات الداعمة للفكرة في تنوع أراضيها ومواردها مع دعم البحث العلمي لبناء منظومة تعليمية تتوافق مع المستحدثات.

6- التركيز على بناء الفرد المسلم القادر على مواجهة التحديات، والتحرك بفكره الجديد النابع من الفهم الصحيح لدين الله، فلا نهضة بغير إنسان قادر على صنعها، بهوية أصيلة وواضحة وقوية.

7- توحد الأمة حول قضاياها الكبرى، مثل القضية الفلسطينية وتحرير المقدسات، وكامل التراب الفلسطيني، وقضايا الأقليات مثل الروهنجيا والأويغور، والسودان واليمن وليبيا.. وقضايا الحريات.

8 - الإصلاح والعدل ومحاربة الفساد.

كيف تحدد الأمة أولوياتها؟

لن تستطيع الأمة أن تحدد أولوياتها بصورة صحيحة حتى تحدد هويتها ومرجعيتها الصحيحة، وهي المرجعية الدينية النابعة من مقاصد الدين في حفظ الكليات الخمس الإنسانية لتقوم بترتيب الأولويات وفق هذه الأساسيات، فتحتكم لدينها وهويتها وأصالتها، فتدرس الأمة واقعها، وتعرف مقوماتها ونقاط قوتها ونقاط ضعفها لتعالجها، ثم إسناد الأمور لأهل الاختصاص من علماء ومربين وإداريين وأكاديميين، ثم الموازنة بين إمكاناتها الحقيقية والتحديات التي تواجهها.

إن ترتيب أولويات الأمة في ضوء المتغيرات العالمية لم يعد أمراً هامشياً، وإنما هو ضرورة وجودية يتعلق بكونها أمة قرآنية يجب أن تستمر، أو أن يصيبها الاستبدال الحتمي إن لم تقم بوظيفتها المنوطة بها في تغيير الواقع العالمي المادي المرعب، ويجب تفعيل البوصلة ومواجهة التحديات العنيفة التي تواجهها، قبل أن يصيبها ما أصاب الأمم من قبل من استبدال وعقاب رباني.

___________________

(1) إعلام الموقعين لابن القيم.