تكتيكات الصمود والدفاع.. كيف واجهت المقاومة الفلسطينية حرب الإبادة؟

د. إياد القرا

20 أكتوبر 2025

73

لم تكن حرب الإبادة التي شنّها الاحتلال «الإسرائيلي» على قطاع غزة مجرد معركة عسكرية تقليدية، بل كانت حرب وجود وإرادة، هدفها كسر روح المقاومة وشطب غزة من الجغرافيا والوعي، ومع ذلك، استطاعت المقاومة الفلسطينية تحويل هذا العدوان غير المسبوق إلى مدرسة في الصمود والدفاع والإبداع الميداني، وجمعت بين التكتيك العسكري والقدرة المجتمعية والسياسية على الثبات، لتقدّم نموذجاً فريداً في إدارة الحرب من قلب الحصار والموت.

تثبيت المعادلة الميدانية

منذ الساعات الأولى للعدوان، وضعت المقاومة إستراتيجية دفاعية تقوم على مبدأ «المرونة القتالية» بدلًا من التموضع الثابت.

فقد جرى توزيع الوحدات على مربعات ميدانية صغيرة (عقد قتالية)، يعمل كل منها بشكل شبه مستقل، بما يمنع الانهيار الكلي لأي قطاع في حال استهداف القيادة أو انقطاع الاتصالات.

واعتمدت المقاومة على شبكة أنفاق إستراتيجية تُستخدم كمسارات آمنة للانتقال والتواصل والإمداد، إضافة إلى كونها غرف عمليات بديلة، حافظت على تماسك القيادة رغم الاستهداف المكثف.

هذا التنظيم اللامركزي أتاح للمقاومة الحفاظ على إيقاع المعركة، وحرمان جيش الاحتلال من تحقيق السيطرة المكانية، وهو هدفه المركزي في العمليات البرية.

كما نجحت المقاومة في توزيع المجهود القتالي على جبهات متوازية؛ ما أربك القيادة «الإسرائيلية» وأفقدها القدرة على تحديد نقاط الثقل والضعف داخل القطاع.

الدفاع الطبقي والكمائن الذكي

ابتكرت المقاومة أسلوبًا جديدًا في إدارة الميدان أُطلق عليه «الدفاع الطبقي»؛ وهو توزيع خطوط المواجهة إلى ثلاث طبقات؛ الأولى: للاستطلاع والرصد، والثانية: للاشتباك المحدود، والثالثة: للإطباق وتصفية القوات المتقدمة.

هذا الأسلوب مكّن المقاتلين من امتصاص الضربات الأولى، واستنزاف العدو على مراحل، وصولًا إلى الكمين النهائي داخل المناطق السكنية أو الممرات الضيقة.

كما استخدمت المقاومة طائرات مسيرة محلية الصنع في الاستطلاع والمراقبة، ونقلت صورًا حية لتحركات القوات؛ ما ساعد في دقة استهداف الآليات «الإسرائيلية»، واعترف الاحتلال بالعجز في مواجهة ذلك ومنع خروج صور استهداف آلياته.

في الوقت ذاته، لجأت المقاومة إلى وسائل خداع ميداني كالمجسمات الوهمية والحرارية لتضليل الطائرات، بينما نصبت العبوات الناسفة المتقدمة المزودة بأنظمة تفجير عن بُعد.

هذه التكتيكات جعلت كل شارع في غزة «حقل اختبار» للجيش «الإسرائيلي»، الذي وجد نفسه يقاتل عدوًا غير مرئي، يظهر ويختفي في ثوانٍ.

حرب الوعي والإعلام

في موازاة المعركة العسكرية، أدركت المقاومة أن الحرب الحقيقية تُخاض على وعي الجماهير.

لذلك، أطلقت حملة إعلامية ممنهجة نقلت صور الإبادة لحظة بلحظة، وأعادت تعريف الصراع في العالم كحرب ضد الإنسانية.

لم يكن الهدف فقط فضح جرائم الاحتلال، بل كسر روايته التي حاولت تصوير العدوان كـ«دفاع عن النفس»، فقد نجحت المقاومة عبر منصات الإعلام المحلي والعالمي في جعل غزة رمزًا للثبات والكرامة، وتحويل المأساة إلى طاقة مقاومة عالمية.

كما اعتمدت المقاومة سياسة الخطاب الموحد في بياناتها وتصريحات متحدثيها، فأوصلت رسائلها بلغة وطنية جامعة، دون انزلاق إلى المزايدات أو الشعارات العاطفية، التي قادها الملثم الناطق باسم «القسام» أبو عبيدة، الذي قال الاحتلال: إنه اغتاله قبل شهرين، لكن المقــاومة تتكتم على ذلك.

وبذلك، انتصرت في حرب الرواية، إذ لم يعد الاحتلال قادرًا على احتكار الصورة أو تزييفها، خاصة مع انتشار مشاهد الجرائم المروعة التي التقطها الصحفيون والمواطنون في الميدان.

الصمود الشعبي كرافعة للقتال

الركيزة الأهم في استمرار المقاومة كانت الحاضنة الشعبية؛ فرغم التدمير الواسع والنزوح والدماء، ظل المجتمع الغزي متماسكًا حول خيار الصمود، وأُنشئت لجان طوارئ شعبية في كل حيّ لتأمين الغذاء والماء والإيواء، وتحولت المساجد والمدارس إلى مراكز دعم جماعي، بل إن بعض العائلات كانت تتقاسم ما تبقى لديها من طعام أو وقود مع الجيران والمقاتلين، في صورة نادرة من التلاحم الاجتماعي.

هذا الوعي الجمعي جعل من كل مواطن جزءًا من منظومة المقاومة، وساهم في منع الانهيار الداخلي الذي راهن عليه الاحتلال.

لقد تحولت المعركة من حرب جيش ضد تنظيم، إلى حرب ضد شعب بكامله، يمتلك وعيًا بأن البقاء في الأرض شكل من أشكال المقاومة.

إدارة الموارد تحت الحصار

في ظل الحصار الخانق وانقطاع الإمدادات، لجأت المقاومة إلى ما تسميه «اقتصاد الحرب المقاوم»؛ أي تحويل المتاح المحدود إلى مصدر قوة؛ فتمّ تصنيع الذخائر وقطع السلاح داخل ورش صغيرة تحت الأرض، وأُعيد تدوير أجزاء من القذائف غير المنفجرة لصناعة عبوات جديدة، من مخلفات جيش الاحتلال وقذائفه التي لم تنفجر، وبهذه المرونة اللوجستية، استطاعت المقاومة الحفاظ على استمرارية القتال، وأثبتت أنها لم تعد رهينة الإمداد الخارجي، بل طوّرت قدرة ذاتية على الاستمرار رغم الحصار الكامل.

حتى الخدمات المدنية تحولت إلى جزء من المعركة؛ فالمهندسون والأطباء والصحفيون والمتطوعون شكّلوا جبهة خلفية لتأمين المجتمع، في نموذج أقرب إلى الاقتصاد المقاوم الذي يدمج المجهود الحربي بالجهد الإنساني.

التكامل بين المسارات السياسية والعسكرية

أظهرت المقاومة نضجًا سياسيًا لافتًا حين فصلت بين المسارين الإنساني والسياسي في التفاوض؛ فقد تعاملت مع وقف إطلاق النار كضرورة إنسانية، دون المساس بثوابت التحرير أو شروطها الإستراتيجية، وفي مقدمتها الانسحاب الكامل وتبادل الأسرى، بهذا الفصل، حافظت على أوراق قوتها ولم تُستدرج إلى فخ التنازلات.

كما أدارت ملف الأسرى ببراغماتية عالية، معتبرة أنه إحدى ثمار الصمود الميداني وليس بديلاً عن المشروع الوطني؛ هذا التكامل بين الميدان والسياسة عزّز من مكانة المقاومة كفاعل سياسي وطني لا يمكن تجاوزه في أي صيغة للحل أو إعادة الإعمار، وأثبت أن القوة العسكرية يمكن أن تُترجم إلى مكاسب سياسية متينة.

الدروس والمآلات

خرجت المقاومة من حرب الإبادة أكثر تنظيمًا وخبرة، بينما خرج الاحتلال مثقلاً بالهزيمة المعنوية والسياسية.

لقد كشفت الحرب أن إرادة الشعوب أقوى من ترسانات الجيوش، وأن التفوق التقني لا يحسم معركة ضد وعيٍ مستند إلى قضية عادلة، كما أظهرت أن التكامل بين المقاتل والإعلامي والطبيب والمهندس سر بقاء المقاومة، وأن الميدان لا يُختزل في البندقية وحدها، بل في منظومة شاملة من الوعي والانتماء والإبداع.

أما على الصعيد الإستراتيجي، فقد فرضت المقاومة واقعًا جديدًا عنوانه «لا أمن ولا استقرار في المنطقة دون إنهاء الاحتلال»، وباتت غزة، رغم دمارها، مركز الوعي المقاوم، ومختبر التجربة التي يتعلم منها كل من يواجه الظلم والاستعمار في هذا العصر.

لقد فشلت حرب الإبادة في تحقيق أهدافها، وولدت من بين الركام مرحلة جديدة من الوعي الوطني.

تكتيكات المقاومة في الصمود والدفاع لم تكن مجرد حيلة ميدانية، بل رؤية إستراتيجية شاملة لبناء مجتمع مقاتل، يرفض الهزيمة ويحوّل المعاناة إلى طاقة فعل، وغزة اليوم، وإن بدت مدمرة، فإنها تحمل في باطنها بذور الانتصار القادم، لأنها أثبتت أن الإنسان الفلسطيني حين يُحاصر ويُقصف، لا يموت، بل يُعيد تعريف معنى الحرية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة