توني بلير وغزة.. إعادة تدوير مجرم حرب في ثوب الوسيط

د. أمجد بشكار

12 أكتوبر 2025

193

لم يكن ترشيح اسم توني بلير إلى واجهة الملف الفلسطيني وخاصة في سياق غزة مجرد صدفة أو مناورة دبلوماسية عابرة، بل هو جزء من مسار أمريكي «إسرائيلي» يسعى لإعادة إنتاج أدوات سياسية قديمة بواجهات جديدة، فالرجل الذي يحمل سجلاً ثقيلاً في دعم الاحتلال والتورط في غزو العراق وتبرير الجرائم بحق الفلسطينيين، يُقدَّم اليوم على أنه خبير سلام أو مهندس إعادة إعمار، رغم أنه لم يكن يوماً سوى شريك استعماري في مشروع تصفية القضية.

فمنذ توليه رئاسة الوزراء في بريطانيا منذ عام 1997م ولمدة 10 أعوام لم يُخفِ انحيازه الكامل لـ«إسرائيل»، فقدم لدولة الاحتلال دعم الاجتياحات وبارك خطاب مكافحة الإرهاب الذي صُنّفت فيه المقاومة الفلسطينية كتهديد يجب سحقه، ووقف في صف الحكومة «الإسرائيلية» اليمينية في المحافل الدولية، هذا الانحياز لم يكن موقفاً عابراً، وإنما امتداد لرؤية استعمارية ترى فلسطين ملفاً أمنياً وليس قضية تحرر وحقوق لتقرير المصير.

وعندما عُيّن مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية عام 2007م، ظن البعض أن دوره قد يحمل بعداً دبلوماسياً متوازناً، لكن سرعان ما ظهر أنه مجرد قناة لترويج مشروع السلام الاقتصادي الذي صُمّم لتجاوز جذور الاحتلال وعلى رأسها احتلال الأرض والاستيطان، وتكريس سلطة فلسطينية مقيدة ومربوطة بالمانحين والغرب.

مجرم حرب بثوب مستثمر سياسي

لا يمكن قراءة دور بلير في غزة دون استحضار خلفيته في غزو العراق إلى جانب إدارة بوش، ودوره في تدمير دولة عربية وتشريد الملايين وتبرير الحرب بالأكاذيب، هذا ليس مجرد خطأ إستراتيجي، بل جريمة مكتملة الأركان جعلته في نظر الرأي العام العالمي والنخب القانونية مجرم حرب يستحق الملاحقة لا الاحتفاء.

وعلى المستوى الفلسطيني، أشرف بلير على مشاريع اقتصادية مشبوهة في الضفة الغربية تهدف إلى خلق طبقة مرتبطة بالمصالح الغربية و«الإسرائيلية» وتهميش البعد الوطني، لم يتحدث عن الاستيطان كجريمة، بل كعقبة تفاوضية، ولم يرَ في الحصار على غزة إلا مشكلة أمنية يمكن إدارتها بإجراءات إنسانية تجميلية.

لماذا الإصرار الأمريكي

الإدارة الأمريكية تدرك أن بلير ليس شخصية محايدة ولا يحظى بثقة الفلسطينيين، لكنها لا تبحث عن وسيط بقدر ما تبحث عن منفذ سياسي قادر على تسويق أجندتها، واشنطن تريد شخصية تضمن 3 أهداف؛ أهمها فصل ملف غزة عن الضفة الغربية، عبر مقاربة ما بعد الحرب أو اليوم التالي للحرب بطريقة لا تسمح بإعادة توحيد النظام السياسي الفلسطيني، بالإضافة الى الترويج لإعادة الإعمار مقابل التهدئة دون الحديث عن الاحتلال والانسحاب والسيادة.

ما يسعى إليه دونالد ترمب وشركاؤه ومستثمروه العمل على تهيئة بيئة عربية دولية لقبول ترتيبات أمنية واقتصادية تلغي المقاومة وتُطوِّع المجتمع الفلسطيني، بلير بشبكة علاقاته ومرونته الخطابية وتاريخه في خدمة المشروع الغربي، يُعتبر أداة مناسبة لإعادة ترتيب المشهد بما يخدم المصالح «الإسرائيلية» والأمريكية.

الدعم العربي.. تواطؤ أم عجز؟

لا يمكن تجاهل أن بعض الأنظمة العربية ساهمت في إعادة تدوير بلير، إمّا عبر فتح قنوات تواصل معه، أو عبر الترحيب بدوره الاستشاري في قضايا الإعمار والاقتصاد، هذا الدعم ليس بالضرورة تعبيراً عن اقتناع، وإنما جزء من شبكة مصالح سياسية واقتصادية وإقليمية تلتقي مع الرؤية الأمريكية، وتقدّم بعض العواصم العربية بلير كشريك محايد لا لشيء سوى أنه لا يزعج «إسرائيل» ولا يصطدم بالولايات المتحدة ولا يضغط من أجل حلول سياسية جذرية، لكن ما يتم تجاهله هو أن هذا التواطؤ يفتح الباب أمام تسوية تُنهي القضية الفلسطينية، وتُخرج غزة من معادلة التحرر، وتحوّلها إلى ساحة تمويل مشروط يقتل روح المقاومة.

من «السلام الاقتصادي» إلى «إعادة الإعمار المشروط»

المشاريع التي روّج لها بلير طوال سنوات عمله في الأراضي الفلسطينية لم تكن بريئة، ركز على البنية التحتية في الضفة دون سيادة، وعلى الاستثمار دون إنهاء الاحتلال، وعلى تحسين المعيشة دون الاعتراف بالحقوق، وفي غزة حاول مراراً إقحام نفسه في ترتيبات أمنية إنسانية تُطيل عمر الحصار ولا تُنهيه.

اليوم يُستدعى مجدداً ليكون لاعباً في اليوم التالي لغزة تحت شعار «إعادة الإعمار»، لكن وفق شروط «إسرائيلية»؛ لا سلاح، ولا سيادة، ولا وحدة سياسية، ولا عودة للمقاومة.

بلير لم ينتقد يوماً جريمة «إسرائيلية» في غزة لا في حصارها ولا في حروبها المتتالية، لم يصف المجازر بأنها جرائم، ولم يتبنّ خطاب القانون الدولي، بل تبنّى بالكامل رواية الاحتلال الأمنية، وحين اندلعت حرب عام 2014م، خرج ليقول: إن «حماس» تتحمل المسؤولية، متجاهلاً الحصار لسنوات طويلة والعدوان والاستيطان، وحتى حين تحدث عن حل الدولتين كان يدفع باتجاه دولة مشوهة بلا سيادة، تقف على قروض ووعود، وتعيش تحت سقف أمني «إسرائيلي» كامل.

لذا، فان تسويق بلير كمنسق أو مبعوث أو شريك في التخطيط لما بعد الحرب يعني تكريس نموذج استعماري يُدار عبر واجهات دولية، غزة ليست مشروعاً تجارياً ولا منطقة تحتاج خبيراً اقتصادياً، بل ساحة صراع على الحرية والوجود، ومن يرتبط اسمه بغزو العراق وتبرير المجازر في فلسطين لا يمكن أن يكون جزءاً من أي حل.

بالنهاية، عودة بلير إلى المشهد ليست تفصيلاً عابراً، بل محاولة لإعادة إنتاج نفس العقلية الاستعمارية التي دمّرت العراق ودعمت «إسرائيل» وحاصرت الفلسطيني، الإصرار الأمريكي عليه والدعم العربي الضمني لبعض تحركاته ليس سوى تعبير عن مرحلة جديدة يُراد فيها تحويل غزة إلى ملف إداري أمني اقتصادي منفصل عن جذوره السياسية والتاريخية.

لذا، يجب التعامل مع بلير كما هو مجرم حرب ومتواطئ استثماري لا وسيط سلام، وشريك في صناعة المأساة وليس جزءاً من أي حل، والمراهنة عليه ليست سوى عبور نحو تصفية أعمق للقضية الفلسطينية تحت لافتة إعادة الإعمار والاستقرار، بينما الحقيقة هي إعادة إنتاج الاحتلال بأدوات أكثر نعومة وخطورة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة