حديث القرآن عن النصر

أفاض القرآن
الكريم في الحديث عن الصراع بين الحق والباطل، وأكد أن سُنة التداول تجري على
الصراع، فقد يظفر أهل الباطل لكن العاقبة هي نصر المؤمنين وفق سنن لا تتبدل ولا
تتخلف؛ (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، وفي السطور التالية نتناول مفهوم النصر في القرآن وما
يرتبط به من مفاهيم ذات صلة، ثم نبين أنواع النصر ونتبعها بالحديث عن بعض خصائص
النصر التي استنبطناها من الآيات القرآنية، ونشرع أولاً بالحديث عن تعريف النصر
ومعانيه في اللغة وفي الاستعمال القرآني.
يقول السمين
الحلبي: النصر والنصرة: الإعانة والمنعة، يقال: نصرته، أي أعنته على عدوه ومنعته
منه.
وقد ورد الجذر «ن
ص ر» في القرآن ما يربو على السبعين مرة في الصيغتين الإسمية والفعلية، والاستعمال
القرآني للفظ ورد على عدة أوجه، هي:
العون، وهو
أكثرها استخداماً، ومنه قوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا) (غافر: 51)، والمنع (فَمَن يَنصُرُنِي) (هود: 63)، والظفر (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) (الأنفال: 10)، والانتقام (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) (الشورى: 41).
ويرتبط بالنصر جملة من المفاهيم نذكر من بينها الغَلبة وهي إما قهر أو استيلاء وترد في الغالب عند الحديث عن غلبة المؤمنين (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: 21)، ويقابله الهزم أي التحطم والكسر ومن ذلك قوله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر: 45)، و(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 251)، ويقابله أيضاً الخذل، وهو ترك النصرة والعون، والخاذل ضد الناصر، وقد ورد بهذا المعنى في القرآن كما في قوله: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم) (آل عمران: 160).
ويشير القرآن
إلى أن النصر ليس على شاكلة واحدة، وإنما تتعدد صوره، ويمكن تبين بعض صوره ونماذجه
على الوجه التالي:
- النصر
الأخروي: لا يقصر القرآن مفهوم النصر على الحياة الدنيا وإنما يجعل منه مفهوماً
أخروياً كذلك، وهذا هو النصر المطلق من فقده خسر خسراناً مبيناً، يقول تعالى: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ
لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ
يُنصَرُونَ) (الأنبياء: 39)، وقوله: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ
شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ
هُمْ يُنصَرُونَ) (البقرة: 48).
- النصر
الدنيوي: ويندرج تحته صنوف متباينة نصر المؤمنين، وهو مقترن بالله عادة ونصر غيرهم،
وهو لا يقترن بالله وربما تعلق بما أشركوا به، ومن هذا قوله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) (التوبة: 40)، وأما غير المؤمنين (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ) (الأنبياء: 68).
- النصر المادي:
وهو أكثر صنوف النصر وروداً في القرآن، وهو قرين القتال في الغالب، وهناك عشرات
الآيات التي تشير إليه، ومن واقعية القرآن أنه يتحدث عن نصر المؤمنين كما يتحدث عن
نصر غيرهم، ويشير إلى عوامل النصر المادية (الجند، الأولياء، الملك) والعوامل
المعنوية (الإيمان، الثبات، الصبر، المرابطة) ومنه قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (الجن: 24)، وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن
دُونِ اللَّهِ) (الشورى: 46).
- النصر
المعنوي: وهذا النصر قد يكون بالحجة حين تغلب حجة المؤمنين الكافرين، ومنه انتصار الحجة
والبرهان، كما انتصرت حجة إبراهيم على الكافرين فلم يجدوا بداً إلا اللجوء للبطش؛ (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ) (الأنبياء: 68)، وقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا) (غافر: 51)، وقيل: إن انتصارهم -في أحد معانيه- هو انتصار الحجة
والبرهان، ويلاحظ أن النصر المادي قد يكون متبوعاً بالنصر المعنوي؛ (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُّؤْمِنِينَ) (التوبة: 14)، فشفاء الصدور وذهاب الغيظ نصر معنوي يزيل أثر الاستضعاف
وبه يكتمل النصر.
اقرأ أيضاً: أيام الصبر أبواب النصر
والنصر في
القرآن له خصائص تميزه، وأول هذه الخصائص كونه من عند الله تعالى، فهو وحده القادر
عليه لا الأولياء أو الجند أو غيرهما؛ (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126).
وثانيها: أنه
عادة ما يرد مع متلازمة الصبر والثبات، وكأن هاتين الصفتين هما من عوامل النصر
التي يعتذر تحقيقه إذا فقدت كلتا الصفتين أو إحداهما؛ (قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 250)، (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ
وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران: 125).
وثالثها: أنه لا
يشترط فيه تكافؤ القوى فضلاً عن التفوق في الأعداد والعتاد، وهي مسألة مهمة إذ
ربما يتوهم ضرورة التكافؤ لنيل النصر، وقد خبر المسلمون بأنفسهم عدم جدوى ذلك في «حنين»؛
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ) (التوبة: 25)، ويتأكد هذا المعنى في قوله: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ
قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ
لَهُمْ) (محمد: 13)، وهي قاطعة في أن القوة أو بالأحرى البطش وحده لا يحقق
نصراً إن فقدت عوامل النصر المعنوية الأخرى.
اقرأ أيضاً: أسباب النصر في الهدي القرآني
ورابعها: أن
النصر لا يكون إلا بعد معاناة ومثابرة طويلة، فلا يتحقق النصر منذ الجولة الأولى
من جولات الصراع بين الحق والباطل، لكن سُنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل هي أن
يتطاول الباطل وأهله ويكابد أهل الإيمان البأساء والضراء ويخرجون من ديارهم
ويهجرون قهراً، فإذا ما صبروا وصابروا وثبتوا أتاهم النصر، والآيات التي تصف
معاناتهم خلال هذه المرحلة كثيرة؛ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ
إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
إن النصر لا يكون إلا لمن نصر الله، ونصرة العبد لله كما يقول الراغب الأصفهاني هو نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، واجتناب نهيه، فلا نصر لمن ضيع ذلك.