من فقه الوسطية اللغوية الدعوية (2 - 2)

20 واجباً على الداعية تجاه لغته الأم

د. رمضان فوزي

22 نوفمبر 2025

110

استكمالاً لما بدأناه في هذه السلسلة «فقه الوسطية اللغوية الدعوية»، وبعد أن استعرضنا في الجزء الأول «لغة الدعاة بين التكلف والابتذال»، واقع الأداء اللغوية للدعاة الذي انقسم إلى ثلاثة أقسام؛ فريق المتشددين والمتقعرين، وفريق المفرِطين في العامية المفرِّطين في الفصحى، وبينهما فريق الوسطيين أصحاب اللغة السهل العذبة الرقراقة التي تصل إلى القلوب قبل الآذان والعقول.

وفي هذا المقال، نضع بين أيدي الدعاة والمصلحين عشرين نقطة جامعة، تمثل خارطة طريق للنهوض بلسان الدعوة، حفاظاً على الهوية وأداءً للأمانة.

أولاً: المقومات الأربعة للأداء الوسطي:

1- إتقان «فرض العين» اللغوي: لا يُشترط في الداعية أن يكون سيبويه عصره، ولكن يجب عليه تعلم ما يكفي لفهم أصول الدين ودلالات النصوص، وضبط قواعد النحو والصرف التي تعصم اللسان من اللحن القبيح وتصون المعنى الشرعي من التحريف (ما لا يسع الداعية جهله من علوم اللغة وفنونها).

2- انتخاب المعجم «الوسطي»: اعتماد المفردات الرشيقة المفهومة التي تمثل «السهل الممتنع»؛ فيشترك في فهمها المثقف والأمي، دون تقعّر بلفظ قديم مندثر، ولا إسفاف بلفظ عامي هابط.

3- تحقيق الانسجام الصوتي والمعنوي: ردم الفجوة بين لغة الداعية ولغة الوحي؛ فالفصاحة الطبيعية تخلق اتساقاً تاماً بين كلام الداعية والنصوص التي يستشهد بها (القرآن والسُّنة)، وهو ما يمنع «النشاز» الذي يكسر إيقاع الخطاب ويُذهب بهجة الاستشهاد.

4- التعبد بـ«الرحمة اللغوية»: استشعار أن تحسين اللغة يدخل تحت باب (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) (آل عمران: 159)؛ فاللين ليس في القلب فقط؛ بل في اللسان أيضاً، والداعية الذي يُيسر لغته يمارس الإحسان على المستمعين، فلا يشق عليهم بتعقيد ولا يرهقهم بتكلف، وهذا أسرع لفتح القلوب.

ثانياً: الواجبات العملية والسلوكية:

5- ترسيخ القناعة العقدية باللغة: أن يوقن الداعية أن العربية ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي وعاء الدين وجزء من الذات؛ فقناعته بفضلها ومكانتها ستنعكس تلقائياً على سلوكه واحترامه لها أمام الناس.

6- تعزيز الهوية والثقة المجتمعية: العمل على ربط الناس بلغتهم باعتبارها «عمودًا فقريًّا» للأمة، وغرس الاعتزاز بها حفاظاً على الكيان، واعتبار التفريط في اللسان العربي القرآني تفريطاً في الهوية الإسلامية.

7- التزام «اللغة الفصيحة»: أن يحرص الداعية في كافة أحاديثه العامة على استخدام اللغة الفصيحة، والسهلة، والواضحة، والقريبة من المدارك، بعيداً عن الغرابة والتعقيد.

8- التكوين الثقافي اللغوي المستمر: على الدعاية ألا يكتفي بمحفوظاته القديمة؛ بل يحرص على أن يكون في مكونات ثقافته وردٌ دائم لتعلم اللغة بالقدر الذي يسمح له بالتدفق في الحديث دون إخلال بالمعاني.

9- الحماية من «التلوث المصطلحي»: أن يحرص الداعية على تنزيه لسانه عن إقحام المصطلحات الأجنبية في ثنايا الحديث (التغريب اللغوي)، إلا ما دعت إليه ضرورة علمية قصوى أو سياق تخصصي لا بديل عنه.

10- ضبط استخدام العامية: عدم اللجوء إلى اللهجات العامية إلا في «أضيق الظروف» كالملح الضروري للطعام، مثل رواية مثل شعبي سائر أو نقل حوار كما سمعه من أحد العوام للأمانة في النقل.

11- التخصيص المحرابي للغة: أن يحرص الداعية أن يكون لمحرابه الدعوي دور في التثقيف اللغوي؛ من خلال إفراد خطب، ودروس، ولقاءات خاصة تتحدث عن اللغة العربية، وفضل تعلمها، ودورها المركزي في نهضة الأمة وفهم القرآن.

12- التدريب العملي بالمحاكاة: استثمار اللقاءات المباشرة لتدريب الناس على الحديث بالفصحى؛ وذلك بجعل الحوارات والنقاشات تدور بلغة عربية سليمة، فيعتاد الناس سماعها والتحدث بها دون حرج أو مشقة.

ثالثاً: المبادرات المجتمعية والمؤسسية:

13- مبادرة «أسبوع العربية» في المساجد: يمكن أن يتم ذلك من خلال اتفاق الأئمة في الحي الواحد أو المدينة على تخصيص أسبوع تكون التوصية فيه بأن يكون الحديث (في المسجد والحياة العامة) بالفصحى، لكسر حاجز الرهبة وتأليف القلوب عليها.

14- التطبيق العملي في المعاهد الشرعية: الدعوة إلى تطوير مناهج الجامعات الشرعية ومعاهد الدعاة؛ لتنتقل من جمود «حفظ المتون» إلى حيوية «الممارسة والتحدث»، لتخريج دعاة يمتلكون ناصية البيان تنظيراً وتطبيقاً.

15- واجب الدعوة في بلاد الغرب: على الدعاة في المهجر مسؤولية مضاعفة تتمثل في عقد دورات لتعليم العربية لغير الناطقين بها، وإصدار كتيبات مبسطة تحببهم في لغة القرآن وتكسر حاجز العجمة بينهم وبين دينهم.

16- التأهيل اللغوي الرسمي: مطالبة وزارات الأوقاف والهيئات الدعوية بعقد دورات تدريبية إلزامية وتنشيطية للأئمة في فنون الإلقاء وعلوم العربية، لضمان الحد الأدنى من السلامة اللغوية.

17- تعريب الذائقة العامة (أسماء المحال): القيام بدور «المحتسب اللغوي» عبر توعية أصحاب المحال التجارية بأهمية وجمال استخدام الأسماء العربية للافتاتهم، بدلاً من الانسياق وراء الأسماء الأجنبية الهجينة.

18- الثقافة اللغوية للمتخصصين: تحفيز الشباب في الكليات العلمية (الطب، الهندسة.. إلخ) على اختيار مواد تتعلق بالثقافة العربية، لربط تخصصاتهم العلمية بجذورهم اللغوية والحضارية.

19- استثمار العطلات (الخط والإملاء): توجيه الطلاب ورواد المساجد لاستغلال الإجازات الصيفية في دورات تحسين الخط العربي وضبط القواعد الإملائية، للجمع بين جمال الرسم وصحة الكتابة.

20- حماية «الأسماء» من التغريب: توعية الآباء بضرورة اختيار أسماء للأطفال تناسب العصر ولكن بجذور عربية؛ تجنباً للأسماء المقعرة المنفرة، أو العامية المبتذلة، أو الأجنبية الوافدة التي تطمس الهوية.

إن لغة بجمال لغتنا وحيويتها حقيقة بأن نتباهى بها، ونخرج صدفاتها نقية صافية كالوردة الفيحاء في حديقة اللغات.. فالعجب أن نملك مثل هذا الكنز الثمين ثم نتخلى عنه ونهرب منه وربما يجد البعض حرجاً في الانتساب إليه! حتى هانت علينا لغتنا التي هي سر نهضتنا، وهانت علينا أنفسنا، فهُنَّا على الناس وأصبحنا في ذيل الأمم.

فهل يدرك الدعاة عظم المأساة، ومن ثَمَّ القيام بواجبهم تجاه أمهم الرؤوم التي تستحق منهم الكثير؟


اقرأ أيضاً:

- لغة الدعاة بين التكلف والابتذال

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة