حقائق من تحت ركام الكارثة

في
مطلع فجر الثاني من أغسطس، اختلط أزيز الطائرات وأصوات المدافع بنداء المؤذن
"حي على الصلاة". لقد ثُقِبَت أستار الأمن الكويتي لتتدفق منه وحشية كفر
البعث العراقي، ولتلطخ الحياة الكويتية الوديعة ببقع الدماء، ونتف الأشلاء،
والنيران المتدفقة من فوهات البنادق.
في
ذاك اليوم، تبدلت الأمور وتغيرت الحياة، لقد كان يومًا ليس ككل الأيام من عمر
الشعب الكويتي، فلقد أصبحنا -وأصبح الملك لله- ونحن شعب بأكمله أسرى نظام كافر
ظالم جعل الإسلام ألد خصومه، نظام يسحق الحريات بكعوب البنادق، ويدوس الكرامة تحت
أحذية العساكر، ويمجد الحاكم إلى حد مرتبة الألوهية. وكان قدرًا علينا أن نصبح
أسرى هذا النظام لنخوض تجربة الابتلاء والتمحيص.
فلقد
نامت عيون الناس ليلًا وفي مصارفها المالية أموال تُيسِّر لها الحياة، واستسلمت
لمخادعها بين أحضان الأمان والسلامة، وغفت جفون الكويت كلها ممتلئة بالمؤن والوقود
ومختلف السلع. وفي الصباح، تحول الجميع إلى مُعسِرين لا تطول أيديهم أموالهم
القابعة في المصارف، وصار الكويتي هدفًا لحملات التفتيش والمداهمات والقبض والحبس
والتنكيل والإعدام، وأصبحت الأسواق والمحلات خرائب تسعى فيها الكلاب والقطط بعد أن
نُهِبَت وحُرِقَت. لقد تبدل الحال من اليُسر إلى العُسر، ولم يبقَ للشعب الكويتي
سوى الله سبحانه وتعالى، فهو: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ
خَوْفٍ) (قريش:4).
ولقد
عاش الكويتيون المحنة بصبر وإيمان تجلى في التفافهم حول بيوت الله، حتى لم يعد
المرء يفرق بين كثافة صفوف الصلاة في الفرائض المكتوبة والجمع، كما تجلى في تضرعهم
وتبتلهم إلى الله وإحيائهم سُنّة القنوت عند الشدائد والمُلِمّات.
وكشفت
هذه المحنة عن معدنهم الأصيل، فقد واجهوا طغيان البعث وجبروته بتحدٍ وصمودٍ
وصلابة، فلقد أعلن هذا الشعب الصغير رفضه القاطع للنظام الكافر، وإصراره على عدم
التعاون معه وإعلان العصيان عليه.
ولقد
كان هذا الموقف أبرز المفاجآت في هذا الحدث، وأهم عناصر عملية تحرير الكويت فيما
بعد. وكلما زاد الشعب صمودًا، زاد البعث العراقي من أشكال التنكيل والتعذيب
والإذلال. وإذا كانت أفئدة الكويتيين تهتز لتناثر أشلاء شبابهم برصاص وشظايا جنود
البعث العراقي، فإن نفوسهم كانت تتفجر ثورة من داخلها عندما يوجه "أرذال
ومجرمو العراق" الشتائم الوضيعة إلى لفظ الجلالة، ويجرجرون أئمة المساجد
بتهمة القنوت. ولقد اعتاد البعث العراقي على استعباد الناس بالإرهاب والتنكيل،
ولكن الشعب الكويتي لم يألف الاستعباد من قبل، ولم يتقبله من بعد.
وهنا
بدأت المعركة بين العصيان الكويتي والوحشية العراقية طوال الأشهر السبعة من عمر
الاحتلال.
ولقد
كان وضعًا طبيعيًا أن تحتجب "المجتمع" تحت ظل الاحتلال، فهي لا تحيا إلا
في أجواء الحريات، ولا تتألق إلا في ظلال الديمقراطية. وماذا تستطيع أن تقول تحت
هيمنة نظام ألغى درجات العقوبة، وجعل الإعدام العقوبة الوحيدة لكل من لا يسير على
هواه؟ لقد كان الاحتجاب صورة من صور العصيان التي أعلنها الشعب الكويتي، لكي يعلم
العالم كله أن الحياة ترفض أن تمضي تحت جبروت الكفر البعثي العراقي في الكويت،
وكان غياب "المجتمع" النتيجة التلقائية في أوضاع الكارثة التي يعيشها
أهلنا في الكويت.
ورغم
أن الكويتيين كانوا يشاهدون البعض يقابل أناتهم وتأوهاتهم -تحت نير الاحتلال-
بهتاف وتصفيق للكفر البعثي، ورغم أن البعض كان يريد صرف العالم عن مُصابهم إلى
المصائب العربية المزمنة، ورغم أن آخرين كانوا يطالبون بترك علاج النزيف الكويتي
للعجز العربي، ورغم أن الكويتيين من شعوب العالم الإسلامي الذين اختاروا لأنفسهم
مشاركة الشعوب الإسلامية في محنها ومصائبها، فكان لهم في كل حدث وقفة، وفي كل حادث
موقف، ورغم أن "المجتمع" كانت صورة حية لمشاركة المسلمين في أحداثهم،
رغم كل هذا، فإننا في "المجتمع" نود أن نؤكد على حقائق لم تتغير في
نفوسنا، وجاءت كارثة العدوان العراقي علينا لتؤكدها ولتزيل الغَبَش عن بعضها، ومن
هذه الحقائق الآتي:
• إننا نؤكد أن النصر الذي تحقق لشعب الكويت
هو من عند الله تعالى وليس من عند غيره.
لقد
كان الكويتيون يدركون أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله لا يحب كل خوّان
كَفُور. فلقد أدركوا أن الله ناصرهم يوم جمع الشرق والغرب على كلمة واحدة مُناصرة
لهم، ويوم أن وفق بين المتناقضات السياسية لتتفق حول مأساتهم، ويوم أن وحد الأمم
كلها لتدين فعل الظالم العراقي، وساق جيوش العالم إلى المنطقة بأحدث ما امتلكت من
أسلحة لإزالة العدوان الآثم في الكويت. لقد كانوا يرددون في قنوتهم "اللهم
ادفع الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين يا رب العالمين"، ولقد تبدت
رحمة الله بهذا الشعب الصغير عندما اختصر لهم زمن المأساة في سبعة أشهر، لتبدأ
معركة كان متوقعًا لها أن تُبيد الكويت ومن فيها، وإذا هي تُبيد لواء الكفر البعثي
ومن قاتل تحته، ولا يُصاب أهل الكويت بأي شظية في حرب التحرير. لقد أدرك الكويتيون
أن النصر من عند الله، فقد قال سبحانه جل جلاله:
(أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
• إن الغرب الرسمي الذي تحرك لمناصرة الشعب
الكويتي لم يفعل ذلك حبًا في الكويتيين، ولا تضحية بمصالحه من أجل مبادئه، ولكنه
فعل ذلك لأن العدوان على الكويت واحتلال أرضها يُخل بميزان النفوذ في المنطقة،
ويضر بمصالحه.
ولقد
استغل قِيَم المجتمعات الغربية المناهضة للظلم والاعتداء على حقوق الإنسان خير
استغلال في تسليط الضوء على وحشية النظام العراقي في الكويت.
ونحن
في الكويت إذ نقدر للغرب ذلك الجهد في تحرير الكويت، ندرك جيدًا أن عملية تحرير
الكويت كانت تحقق مصلحة مشتركة بين الغرب والكويتيين، ولكن يبقى أن يكون في حِسّنا
أن للغرب مصالح تتعارض مع مصالحنا وتطلعاتنا ومستقبلنا، فنحن في الكويت قطعة من
الوطن العربي، وجزء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
• أنه بات واضحًا لنا أن الكفر العربي
المتمثل بنظام البعث العراقي يُعتبر خطرًا عظيمًا على الإسلام، لا يقل بأي حال عن
الكفر والخطر الغربي. وقد أبرز احتلال الكويت جوانب الضعف والقصور لدى بعض
الجماهير الإسلامية في عدم قدرتها على كشف مكائد وحِيَل الكفر البعثي العربي،
ومتابعتها لكل من رفع شعار الإسلام بوجه أعدائنا التاريخيين، بغض النظر عن مقاصده
وأفعاله وممارساته المعادية للإسلام. لقد شاهدنا من يهتف باسم هذا الكفر ويصفق له،
ويقدم نفسه فداءً له. كما شاهدنا من يُبرر كل المنكرات والجرائم التي يرتكبها
البعث العراقي، ويجعلها جهادًا إسلاميًا، وغاب عن البال أن الخاسر الأكبر في
استمرار احتلال الكويت هو الدعوة الإسلامية وحركتها.
• لقد بيّنت كارثة احتلال الكويت أن هناك
جهدًا كبيرًا ينتظر الدعاة والمفكرين في الدعوة الإسلامية في توضيح المبادئ والقيم
التي تقوم عليها الحركة الإسلامية، وفي صياغة إطار واضح ومنضبط في اتخاذ القرارات
والمواقف السياسية العامة إزاء الأحداث المتعاقبة. كما بيّنت الكارثة أن هناك
جهدًا آخر تحتاجه الحركة الإسلامية في رص صفوفها وتوحيد فصائلها على أُسُس متفق
عليها ونابعة من الإسلام والمصلحة الشرعية، وليس المصلحة النفعية البحتة.
وأخيرًا
فإنه من ضمن الحقائق التي أكدتها لنا في هذه الكارثة أن الإسلام هو المنقذ لشعوبنا
من هذه المتاهات التي تقذفنا بها تلك الأنظمة الضالة، فالإسلام الذي قوَّم عرب
الجاهلية الأولى قادر على تقويم عرب الجاهلية المعاصرة، فهو القادر على أن يصوغ
قيمنا بشكل يحفظ للإنسان إنسانيته، وهو القادر على أن يضع لنا معايير وموازين
متحضرة تحول دون الإغارة على بعضنا، وحرق ثرواتنا، وقتل بعضنا، وهتك أعراض بعضنا
بعضًا. وهو القادر أن يقودنا إلى الوحدة الحقة، وإلى النهضة المرجوة، والرضا،
وتحقيق الأماني والغايات التي ترضي الله جل جلاله عن هذه الأمة.
والله
الموفق.
(1)
- منشور في العدد: 977 بتاريخ: 18 جمادى الأولى 1412هـ / 24 سبتمبر 1991م – ص 4