حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر

مصطفى عاشور

13 أكتوبر 2025

113

حقوق الإنسان من القضايا التي استحوذت على اهتمام عالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتوج هذا الاهتمام بتوقيع «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»، في ديسمبر 1948م، ومن بعدها أصبحت تلك القضية انشغالاً عالمياً، يجري تقييم الأفكار والدساتير والممارسات وفق معاييره.

والسؤال: هل قضية حقوق الإنسان كانت من انشغالات الفكر الإسلامي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؟ وهل قدم الفكر الإسلامي مساهمات في هذا المجال؟ أم أن الفكر الإسلامي أعاد تكرار ما نصت عليه مبادئ ذلك الميثاق العالمي، سعياً لإيجاد قنوات اتصال واقتراب وتشابه بين نصوص الإسلام التأسيسية وتلك المبادئ؟ أم أن الفكر الإسلامي اكتفى بما عنده، رافضاً كل ما هو خارجي تحت ذرائع متعددة منها المؤامرة؟

حضور بشكل مختلف

رغم استغراق مواجهة الاستعمار والجمود لمعظم جهود تيار النهضة الإسلامية، فإن قضية حقوق الإنسان كانت حاضرة، ولكن وفق مصطلح الشريعة والمقاصد الإسلامية.

ومن بواكير الاجتهادات الفكرية ما قدمه خير الدين التونسي (ت 1879م)، ذلك المصلح التي تولى منصب «الصدر الأعظم» (رئيس الوزراء) في الدولة العثمانية، وألَّف كتابه المهم «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، الذي دعا فيه إلى الاقتباس من الغرب مع تجديد الدين، لكن رأى أن أهم حقوق الإنسان التي تنهض عليها الأمة الحديثة هو العدل والحرية وقال: «إن الأمم الإسلامية لا تصلح إلا بالنظام الشورى الذي يقيد الحاكم.. إن العدل والحرية هما ركنا الدولة، وهما اللذان كانا في المملكة الإسلامية فأزهرت، ثم فُقدا فذبلت»، وأكد أن التقدم «لم يكن إلا وليدًا للعدل والحرية، وهذه قوانين طبيعية لا تتخلف؛ عدل وحرية يتبعهما عمران، وظلم واستبداد يتبعهما خراب.. ثم إن العدل والحرية يجب أن يوضع لهما من النظم ما يضمن وجودهما ودوامهما».

وأكد أن ما يبنى عليه الأمم والمدنية الحديثة هو «الحرية بنوعيها، وهما الحرية الشخصية وهي إطلاق التصرف للإنسان في نفسه وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه في الحقوق والواجبات، والحرية السياسة وهي المشاركة في نظام الحكم والمداخلة في اختيار الأصلح».

ثم جاء الرواد الثلاثة الكبار جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، فمع خوضهم لمعركة مواجهة الاستعمار والجمود، حضرت قضية حقوق الإنسان بمظاهر وأشكال مختلفة في أفكارهم ودعواتهم الإصلاحية.

جاءت القضية عند الأفغاني في إطار مشروعه الكبير في الاستنهاض السياسي للأمة لمواجهة الاستعمار والاستبداد، ومن مقولته المشهورة: «ملعونٌ في دين الرحمن.. مَن يسجن شعباً.. مَن يخنق فكراً.. مَن يرفع سوطاً.. مَن يُسكت رأياً.. مَن يبني سجناً.. مَن يرفع رايات الطغيان.. ملعونٌ في كل الأديان.. من يُهدر حقَّ الإنسان».

أما الشيخ محمد عبده فاهتم بقضية الحرية وربطها بحق المواطنة، وكان يقول: «والوطن عند أهل السياسة مكانُك الذي تُنسَب إليه ويُحفظ حقُّك فيه، وتعلم حقّه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك، فلا وطن إلا مع الحرية، ولا وطن في حالة الاستبداد».

أما الشيخ رشيد رضا، فتركزت جهوده على تحقيق العدل ورفض الظلم والاستبداد والمطالبة بحرية المعتقد وحقوق النساء، وربما ما يستوقفنا عنده في قضية حقوق الإنسان هو أنه اعتبر أن الغرب هو من نبهنا إلى هذه القضية، وجعلنا نلتفت إلى ما جاء في ديننا بشأنها.

ففي العام 1907م، في إجابته عن سؤال ورده من قارئ في مجلة «المنار»، وهو: لماذا لا نسمي الحكم الدستوري حكم الشورى؟ فأجابه رشيد رضا: «لا تقل أيها المسلم: إن هذا الحكم -المقيد بالشورى- هو أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس، لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام.. إنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك.. ومع هذا كله أقول: إننا لولا اختلاطنا بالأوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة، أو أمم إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الكريم». 

موقف الغزالي وعمارة

الفكر الإسلامي المعاصر نظر إلى حقوق الإنسان كمطالب من الواجب تحقيقها، وهو ما ربطها بحقائق الإسلام الكبرى ومن بينها الحرية وإقامة العدل والمساواة، ومن ثم كان مضمون حقوق الإنسان مركزياً في الدعوات الإصلاحية، وإن لم يتكلم عنها بشكل منفصل وواضح.

ونلاحظ أن من بواكير المساهمات للفكر الإسلامي في مسألة حقوق الإنسان ما كتبه العلامة الأزهري الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه «أين الإنسان؟»، عام 1911م، وكانت القضية التي شغلته المساواة بين البشر، معتبراً أن غيابها أصل الشرور في العالم، وأنها تقف وراء غياب السلام العالمي.

أما الشيخ محمد الغزالي، في كتابه «حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة»، فقد سعى لبيان أصالة حقوق الإنسان في تعاليم الإسلام، وأن تلك الحقوق كانت مبثوثة في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، واستند الغزالي إلى ما كتبه د. علي عبدالواحد في كتابه «الإسلام وحقوق الإنسان»، حيث إن أهم الحقوق العامة للإنسان ترجع إلى حقين أساسيين، هما: الحرية والمساواة.

يقول الغزالي، في مقدمته: «إن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشري كان من أبجديات الإسلام، وأن إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ترديد عادي للوصايا النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الأول الكبير الخاتم محمد صلى الله عليه سلم.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، وضعت لجنة مكونة من 50 من علماء وفقهاء المسلمين بتكليف من منظمة المؤتمر الإسلامي ما سمي بـ«البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان» وتضمن 23 بنداً.

ونجد كذلك كتاب «الإسلام وحقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق» للدكتور محمد عمارة، حيث أكد فطرية حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية، وأن هذه الحقوق محمية بالنصوص التأسيسية من القرآن والسُّنة النبوية، ونقد عمارة آراء ظهرت في المحيط الإسلامي تنتقص من حقوق الإنسان تحت ذريعة حماية الشريعة، واتهم عمارة هؤلاء بأنهم يغتصبون إنسانية الشريعة مثلما يفعل المستبدون سواء بسواء، حيث إن ما يطرحونه نوع من الجور والتبرير للمظالم التي يتعرض لها الإنسان.

وأكد عمارة أن الإسلام ارتفع بحقوق الإنسان من مرتبة الحق إلى مرتبة الضرورة الواجبة، وقال: إن الإسلام ليبلغ في تقديس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل قيام الدين بدون توافرها للإنسان، ومن الحقوق التي اعتبرها الكتاب ضرورات: الحرية، والشورى، والعدل، والعلم، والاشتغال بالشؤون العامة، والمعارضة.

أما المقاصدي أحمد الريسوني فكتب أن حقوق الإنسان في الإسلام شرعت بأصل الخلق، وأنها لم تنتزع نتيجة إضرابات أو مظاهرات أو حروب، ولكن كانت نصوصاً أصيلة في الدين يحصل عليها الإنسان كحق واجب، فهي من مقاصد الدين وغاياته العليا، وهو ما أكدته كذلك اجتهادات الشيخ راشد الغنوشي في كتابه «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام».

لعلنا نشير هنا إلى رأي جدير بالعناية من الراحل د. عبدالوهاب المسيري في أن الواجب في حديثنا عن حقوق الإنسان أن نبدأ بحقوق الأسرة، ثم تتفرع عنها ومنها بقية الحقوق، حتى لا تميل رؤيتنا إلى تجزئة الإنسان، فيقول: «قد يكون من الأجدر بنا أن نتحدث عن حقوق الأسرة كنقطة بدء ثم يتفرع عنها وبعدها حقوق الأفراد الذين يكوّنون هذه الأسرة، أي أننا سنبدأ بالكل (الإنسان الاجتماعي) ثم نتبعه بالأجزاء الفردية.


اقرأ أيضاً:

حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.. نظرة غربية

الحق في التصور الإسلامي

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة