حقيقة التوكل.. كيف تجمع بين السعي والأخذ بالأسباب؟
يدور في خاطر
الإنسان صراع متقد بين تخطيطه للمستقبل ورغبته في التوكل على الله، ويؤجج هذا
الصراع الخوف من المستقبل والقلق من عدم التوكل على الله حق التوكل.
والحقيقة أن هذا
الصراع ناشئ عن تعارض متوهم بين التخطيط والتوكل، وهو ما نسعى لدحضه في هذا
المقال، وبيان حقيقة كل من الأخذ بالأسباب والتوكل.
الأخذ بالأسباب.. كيف يتحوّل عملك الدنيوي إلى عبادة؟
اعلم أن الله عز
وجل بنى الكون على أساس أن للنتائج أسبابًا، فتارك الأسباب كالرامي بلا وتر، لكنه
عز وجل لم يجعل السبب ضامنًا للنتيجة، فقاعدة: «من جد وجد، ومن زرع حصد» لا تصدق
بشرطيها تمامًا إلا في الدار الآخرة، فكم من الدنيا من زارع حصد ثمار نجاحه غيره،
وكم ممن جد ولم يجد، وليس هذا تقنيطًا من رحمة الله عز وجل، وإنما هو ضبط لبوصلة
التوقعات، ففي الدنيا الأسباب مظنة الوصول إلى النتائج غالبًا، ولكن الله غالب على
أمره.
يقول الإمام ابن
عطاء الله السكندري في حكمه: «إلى المشيئة يستند كل شيء، ولا تستند هي إلى شيء»،
والمشيئة هنا هي الإرادة كما أشار لذلك الشيخ زروق في شرحه للحكم، فلولا إرادة
الله عز وجل بجعل السبب موصلًا للنتيجة لما أوصل، وكم من نتيجة حارت العقول في فهم
السبب المؤدي إليها ولم تمتلك إلا الخضوع أمام إرادة الله عز وجل التي لا يعجزها
شيء ولا سبب! فإذا اعتقد الإنسان أن السبب إنما يفيد بإرادة الله عز وجل، عمل
بالسبب، ثم مد يده إلى مسببه سبحانه.
ولما كانت
أفعاله سبحانه لا تخلو من حكمه، فكذلك كان خلقه للأسباب ابتداءً، فمن هذه الحكم
والفوائد ما أشار إليه الإمام ابن عطاء الله في كتابه «التنوير في إسقاط التدبير»:
الفائدة الأولى:
أن الله تعالى علم ضعفَ قلوب العباد وقُصورهم عن مشاهدة القِسمة، وعجزَهم عن صدق
الثقة، فأباحَ لهم الأسبابَ استناداً إليها وتثبيتاً لأنفسهم، فكان ذلك من فضله
عليهم.
الفائدة
الثانية: أن في الأسباب صيانة للوجوه عن الابتذال بالسؤال، وحفظاً لبهجة الإيمان
أن تزول بالطلب من الخلق، فيعطيك الله من الأسباب ما دام فيه المخلوق عليك؛ إذ لا
يَمنُّ عليك أحدٌ إن اشترى منك أو استأجرك على عمل شيء، فإنه في حظّه سعى، ونفع
نفسه قصد، فاستُفيد منك بغير مِنّة.
الفائدة
الثالثة: أن في شُغل العباد بأسباب معاشهم شغلاً عن معصيته، والتفرّغ إلى مخالفته،
ألا تراهم إذا تعطّلت أسبابهم واغتربوا عن أعيادهم وغيرها، كيف يتفرّغ أهل الغفلة
لمخالفة الله تعالى، وينهمكون في معصية الله؟! فكان شغلهم بالأسباب رحمةً من الله
تعالى عليهم.
الفائدة
الرابعة: أن الله تعالى أراد أن يتألّف المؤمنين بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
(الحجرات: 10)، فكانت الأسباب سبباً لتعارفهم، وموجبة لتوادّهم، ولا يُنكِر
الأسباب إلا جاهلٌ أو عبدٌ عن الله غافل.
ولما كان مدار
الأعمال على نياتها، كان المسلم مثابًا على عمله الدنيوي إن قصد به صلاح دنياه من
النفقة على نفسه ومن يعول، والتوسعة على عياله، والتصدق على فقراء المسلمين، وأن
يصون وجهه عن سؤال الناس إجمالًا، وكل ذلك مما لا شك يثاب عليه الإنسان إن نواه
ويكون بهذا صلاح دنياه سلمًا في الترقي لأخراه، أما إن قصد بعمله الترقي في الدنيا
للدنيا، بطلب الجاه فيها، والتنافس مع من أهلكوا أنفسهم في تحصيلها، فبئسما أنفق
فيه عمره!
التوكل على الله.. كيف يصبح تفويض الأمر راحة؟
كان مما نصح به
الإمام العلَّامة عبدالقادر الجيلاني طلبته في مجالسه المجموعة في كتاب «الفتح
الرباني والفيض الرحماني»: «لا تكن عبدًا للأسباب»، فتعتقد أنها موصلة للنتيجة
بنفسها، بل الأمر كله راجع لاقتران الإرادة الإلهية بهذا السبب، فإذا علمت ذلك اطمأنت
نفسك وهدأ روعك، خصوصًا أن حقيقة التوكل هي التفويض، التفويض لما جرت به المقادير
قبل حصولها لنا، أن نطفو على سطح بحر القدر كاللوح الخشبي، يذهب بنا ساعة ذات
اليمين وساعة ذات الشمال، ونحن نتقلب يمنة ويسرة لا إرادة لنا، هذا هو لب التفويض.
ويزيد طمأنينتك
أن رزقك إن كان مكتوبًا لك لم يأخذه غيرك، وأنه يطلبك كما تطلبه أنت بل أشد طلبًا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرزق أشد طلبًا للعبد من أجله».
لكن الواحد منا
أحيانًا قد تتجاذبه نفسه فتنسيه الحاضر ممنية إياه بالمستقبل، فلا هو انتفع
بالحاضر ولا هو ضمن المستقبل، وفي هذا المعنى تكلم الإمام علي بن أبي طالب رضي
الله عنه فقال: «يا ابن آدم، الرزق، رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبُكَ، فإن لم
يأتِكَ آتاك، فلا تَحمِلْ همَّ سنتِكَ على همِّ يومِكَ، كفاكَ كلُّ يومٍ ما فيه،
فإن تكنِ السَّنةُ من عُمرك فإنَّ الله تعالى سيُؤتيك في كلِّ غَدٍ جديدٍ ما
قُسِمَ لك، وإن لم تكنِ السَّنةُ من عُمرك، فما تَصنَعُ بالهمِّ فيما ليسَ لك، ولم
يَسبِقْكَ إلى رزقِك طالبٌ، ولن يَغلِبَك عليهِ غالبٌ، ولن يُبطِئَ عنكَ ما قد
قُدِّرَ لك».
قصص تطبيقية
لا يكاد الناظر
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والمتأمل في سيرته الشريفة إلا ويجده في كمال ما
يجب أن يكون عليه المرء من الأحوال مع ربه، فهو أكمل المتوكلين صلى الله عليه
وسلم، ومع كمال اتصافه صلى الله عليه بالتوكل نجده يشارك أصحابه في حفر الخندق، وقبل
ذلك في هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حيث كان عامر بن فُهيرة،
مولى الصديق رضي الله عنه يتتبع آثاره والنبي صلى الله عليه وسلم ليخفيها عن قريش،
مع أمره لأصحابه بالجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل فقال صلى الله عليه وسلم لمن
ترك ناقته دون أن يربطها: «اعقلها وتوكل».
فالتوكل في
الإسلام ليس دعوة للتقاعس ولا نذرًا للأسباب، بل هو معادلة متوازنة؛ حيث يد تعمل،
وقلب يسكن إلى الله تعالى، والمؤمن الحقّ لا يعيش رهينة القلق ولا أسير الحظ، بل
يسعى بإتقان ويُفوض بإيمان، فالتوكل لا يلغي الأسباب، والتخطيط لا يناقض الإيمان، إنّ
الصيغة الذهبية التي تختصر حقيقة التوكل هي «اعقلها.. وتوكل»، ففي الأولى عمارة
للأرض، وفي الثانية سكينة للقلب، وبهما معًا تكتمل إنسانية المسلم وعبوديته لله جل
وعلى.