حين يُهمل النبوغ.. لماذا يضيع الطفل الموهوب في زحام المشكلات؟
في زوايا البيوت، وخلف جدران الصفوف الدراسية، يكبر طفل متميز بعينين تبحثان عن الاعتراف، لكنه يجد نفسه في الظل، يُزاح جانبًا لأن أخاه الأصغر يحتاج إلى رعاية مكثفة، أو لأن أخته تعاني من صعوبات تعليمية، أو لأن أحد أفراد الأسرة يستهلك جلَّ اهتمام الوالدين بسبب سلوكه المشاكس، وبينما يُستنزف الوالدان في معالجة الأزمات، يُترك هذا الطفل الموهوب ليُواجه وحده عالمه، دون دعم، ودون تقدير، ودون احتضان يليق بإبداعه.
هذه الظاهرة لا تحدث اعتباطًا، بل وراءها منطلقات تربوية واجتماعية تجعل الوالدين –بوعي أو دون وعي– يوجهون جل اهتمامهم للطفل الذي يعاني مشكلات، فيما يضعون الطفل الموهوب في خانة المكتفي ذاتيًا.
فالمنطق السائد في كثير من البيوت يقوم على أن الطفل الذي يواجه صعوبات يحتاج إلى دعم أكبر، بينما الطفل المتفوق لا يحتاج إلا إلى التوجيه من حين لآخر، كونه يعرف ما عليه فعله.
نضف إلى ذلك، أن بعض الأسر تعيش في دوامة المشكلات، حيث يصبح حل الأزمات محور العلاقة الوالدية، فتُختزل التربية في التعامل مع الأخطاء والانحرافات، ويصبح الابن المشاكس أو الضعيف مركز الاهتمام، فيما يتحول الطفل الموهوب إلى كائن مُهمَل، فقط لأنه لم يسبب صداعًا لوالديه.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن بعض الآباء يخشون على أبنائهم المتميزين من الغرور، فيتعمدون عدم الإشادة بإنجازاتهم، خوفًا من أن تتضخم ذواتهم.
كما أن العوامل المجتمعية تؤدي دورًا في توجيه الأولويات الوالدية، فغالبًا ما تُعطى الأولوية لمن يحتاج «الإنقاذ»، في حين يُترك من يُظن أنه يسير في طريق النجاح دون مساعدة، هذا التصور، رغم كونه شائعًا، لا يقوم على أي أسس تربوية سليمة، بل هو خطأ إستراتيجي يقتل الإبداع، ويُحبط الطفل الموهوب، ويحرمه من أبسط حقوقه في التقدير والاحتضان.
إهمال الطفل الموهوب ليس فقط خطأ تربويًا، بل جريمة نفسية قد تترك آثارًا عميقة على مستقبله، فالطفل الذي لا يجد احتفاء بقدراته يبدأ بفقدان الحافزية، وبدلًا من أن ينمو في بيئة داعمة، يجد نفسه وحيدًا في مواجهة عالم لا يعترف به، ومع مرور الوقت، قد يتطور لديه شعور بعدم الأهمية، وكأنه لا يُحدث فرقًا في محيطه؛ ما يؤدي إلى تآكل تقديره لذاته.
في بعض الحالات، قد يتحول هذا الإهمال إلى وقود لمشاعر الغيرة والعدوانية، فيبدأ الطفل الموهوب في التمرد أو العزلة، كرد فعل على التمييز غير العادل الذي يراه في منزله.
هناك أطفال آخرون يستجيبون للإهمال بمحاولة إثبات أنفسهم بأي طريقة ممكنة، فيتبنون عقلية الكمال القاتل، حيث يسعون لتحقيق نجاحات خارقة لتعويض النقص العاطفي، لكن هذا المسار يحمل أخطار الاحتراق النفسي المبكر، حيث يستهلك الطفل طاقته في سباق لا نهاية له لإثبات ذاته، وحين لا يجد الدعم الكافي، قد يهرب إلى عوالم افتراضية، أو ينغمس في العزلة، أو يفقد شغفه بكل ما كان يجيده يومًا.
التوازن هو الحل، وهو ليس أمرًا مستحيلًا كما قد يبدو، فالتربية ليست لعبة مقايضة، بحيث ينال أحد الأبناء كل الاهتمام فيما يُحرم الآخر، ويمكن للوالدين تحقيق هذا التوازن من خلال تخصيص وقت خاص لكل طفل، بحيث يشعر كل فرد في الأسرة بأنه مُهم ومُقدّر.
ومن الضروري أيضًا أن يتمكن الطفل الموهوب من الوصول إلى منصات تعزز موهبته، سواء عبر برامج إثرائية، أو مسابقات علمية، أو أنشطة إبداعية، حتى لا يُترك لينطفئ في العتمة، ويمكن كذلك دمج الطفل الموهوب في عملية دعم إخوته، بحيث يشعر أنه ليس مُستبعَدًا، وإنما جزء من الأسرة في أدوارها المختلفة، لكن دون أن يُلقى عليه عبء يفوق طاقته.
الوالدان عليهما مسؤولية كبرى في تفادي المقارنات السلبية بين الأبناء، فبدلًا من تبرير التحيز بعبارات؛ مثل «أخوك يحتاج إلى رعاية أكثر»، من الأفضل تبني نهج يعزز من قيمة كل طفل بعبارات؛ مثل «كل واحد فيكم مميز بطريقته»، فبهذا الأسلوب، ينشأ الأبناء في بيئة تشجعهم على تطوير قدراتهم، دون أن يشعر أحدهم بأنه مهمّش أو غير مرئي.
يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للطفل الموهوب أن يصمد أمام الإهمال؟ الإجابة تعتمد على عدة عوامل، فبعض الأطفال يمتلكون قدرة داخلية على المقاومة والاستمرار، بينما ينهار آخرون بسرعة تحت وطأة التهميش؛ ومع ذلك، فإن الإهمال المستمر غالبًا ما يؤدي إلى أحد مسارين؛ إما أن يتكيف الطفل بشكل سلبي، فيتخلى عن طموحاته تدريجيًا، ويصبح نسخة باهتة من نفسه، أو أنه ينفجر في مرحلة لاحقة، فيبدأ بالتمرد أو العزلة بحثًا عن الاعتراف في أماكن أخرى.
إن الاهتمام بالطفل الموهوب ليس رفاهية، بل ضرورة تفرضها مسؤولية التربية، وكما يحتاج الطفل الذي يعاني صعوبات إلى رعاية خاصة، فإن الموهوب بحاجة إلى بيئة داعمة تنمي طاقاته، وتحفظ شغفه، وتمنحه الشعور بأنه مهم.
التربية ليست مجرد سد فجوات، بل بناء متكامل يجعل كل طفل يشعر بأنه مرئي، وله مكانه الفريد في الأسرة والعالم، فحين يُهمل النبوغ، فإن الخسارة لا تكون للطفل وحده، بل هي خسارة لمجتمع بأسره.